و لد أبو القاسم الشابي نهار الأربعاء في الرابع و العشرين من شباط
عام 1909 م في بلدة " توزر " التونسية . والده ، الشيخ محمد الشابي ، كان
رجلاً صالحاً ، تولى القضاء في أنحاء البلاد التونسية خارج العاصمة لفترة
امتدت بين عامي 1910 ، تاريخ توليه القضاء ، و حتى وفاته في العام 1929 . و
كان من نتيجة ذلك أن الشاعر لم ينشأ في مسقط رأسه ، بل خرج منه في السنة
الأولى من عمره مع الأسرة ، حين بدأ والده بالطواف في البلدان التي كان
يعين فيها للقضاء و كان لهذا الطواف الذي دام تسع عشرة سنة أثره على الشاعر
من جميع النواحي . فقد تعرض الطفل الناشئ ، النحيف الجسم ، المديد القامة ،
السريع الإنفعال لجميع أنواع المناخ في البلاد التونسية ، من حرّ المدن
الساحلية إلى برد الجبال المرتفعة ، كما تعرض إلى الاحتكاك بمختلف العادات و
اللهجات بين أهل الشمال و أهل الجنوب ، و بين تلك البيئات و المدن التي
تنقل بها الشاعر ، ما يقدر بمئات الأميال أحياناً .
و إذا كان هذا
الترحال قد حرمه من الإستقرار في المدرسة الواحدة ، فقد أكسبه خيالاً
متوثباً و غذى ذاكرته بصور البيئة التونسية المتنافرة و عمق تجربته الشعرية
، فأطلقه من حدود البيئة الضيقة ، و أكسبه تجربة إنسانية شاملة .
و قد
أخذ الوالد على نفسه مسؤولية تعليم ابنه في البيت حتى بلغ الخامسة من عمره
، ثم أرسله إلى الكتاب في بلدة " قابس " ، حين انتقل إليها في مطلع العام
1914 . و لما بلغ الولد الثانية عشرة من عمره أرسله والده إلى العاصمة حيث
التحق بجامع الزيتونة . و الزيتونة آنذاك في تونس ، كالأزهر في مصر ، أو
النجف في العراق . و قد استطاع الوالد أن يؤمن لولده مسكناً متواضعاً في
أحد بيوت الطلبة ، حيث يبيت طالب العلم بأجر زهيد ، و لكن الشاعر لم يكن
راضياً على الإقامة في بيوت تلك المدارس التي لم تكن تسد سوى جزء يسير من
حاجاته الضرورية ، ذلك لأنها كانت مقراً للفقر و المرض . أما في الجامعة
نفسها ، فإن الشاعر لم يكن ميالاً إلى الدروس التي كانت تلقى في " الزيتونة
" من علوم الأدب و اللغة و الفقه و الشريعة ، فالمنهاج لم يكن يتضمن دراسة
الآداب و العلوم العصرية . كما أنّ شيوخ الزيتونة لم يكونوا راضين عن تطرف
الشاعر و شذوذه ، و لا عن شعره .
و إذا كان جو الزيتونة لم يرق للشابي
فلم يمنعه ذلك من تكوين ثقافة واسعة عربية بجتة جمعت بين التراث العربي
القديم في أزهى حلله ، و بين روائع الأدب الحديث في البلاد العربية و في
المهجر ، إضافة إلى ترجمات الآداب الأوربية التي كان المنفلوطي و العقاد و
الصاوي ينقلونها إلى اللغة العربية و تنشر في الصحف التونسية . و قد تركزت
رغبة الشاعر ، بصورة خاصة ، على الأدب العربي الذي نشأ في أميركا على أيدي
المهاجرين العرب ، و تأثر به تأثراً بالغاً .
و في العام 1927 تخرج
الشابي من الزيتونة و نال إجازة " التطويع " و هي شهادة نهاية الدروس في
الجامعة ، لكنه أدرك أن الشهادة لا تؤمن له كسب المعاش الذي يرضي طموحه و
يوافق ميوله ، و ذلك لأن آراءه لم تكن تتفق مع آراء شيوخ الزيتونة . فقرر ،
بعد مراجعة والده ، أن ينتسب إلى كلية الحقوق التونسية في العام المدرسي
التالي . و خلال تلك الفترة تزوج الشابي عام 1928 قبل أن يتخرج من كلية
الحقوق . و عن هذا الزواج يحدثنا زين الدين العابدين السنوسي أحد الذين
تربطهم بالشاعر علاقة وثيقة جداً ، و كان يعرف عن الشابي أكثر مما كان أهل
الشاعر أنفسهم يعرفون عنه . يقول زين العابدين : " إنّ الشابي لم يكن
حازماً أمره على الزواج ، و لكن والده كان يحب أن يتخذ ولده لنفسه عرقَ
خلود و بقاء ، و الشيخ أحرص ما يكون على بقاء جذوره . مع أن الشاعر كان
منكمش الفؤاد يتهيب الزواج بعقله المدرك " . و جاء الشابي إلى صديقه و
معتمده في كثير من شؤونه يمشي على استحياء و قال له : " جئتك لاستشيرك … هل
أتزوج ؟ " قال السنوسي : " و شعرت أنا بثقل مسؤولية الاستشارة
، فهو
ينفض عن صدره تخوفه على قلبه المريض ثم هو يميل إلى الزواج إطاعة لأبيه . و
من وراء ذلك كنت أرى من حديثه بأن الزواج من الميول البشرية الخالدة . "
ثم أن الشابي تزوج " بالفعل و أرضى والده و ضمن لوالده ما أحب والده من
الخلود ، و لكنه في سبيل ذلك ضحى نفسه وحدها ؛ و قد أشرف أبوه على تنسيق
هذا الزواج و تعطيره و مباركته " .
و قد تضاربت الآراء في شأن نجاح هذا
الزواج ، ففي حين يؤكد السنوسي أن الشابي كان في زواجه سعيداً موفقاً ، و
أن زوجه كانت تعطيه كلّ ماوهبها الله ، و تشفق عليه و تترضاه ، يرى آخرون
أن هذا الزواج كان فاشلاً .
و لكن الشاعر ، على الرغم من أنه قد أقنع
نفسه بضرورة الزواج إرضاء لأبيه ، و على الرغم من أنه رزق من زواجه هذا
ولدين ، و على الرغم مما يرويه السنوسي عن نجاح زواجه ، فإن سلوكه العاطفي ،
كما نرى من ديوانه ، لا يدل على أنه كان سعيداً في حياته الزوجية . ذلك أن
المرأة الفاضلة التي تحدث عنها السنوسي ، و التي قبلت أن تكون زوجاً لرجل
عليل ، مصاب بمرض في قلبه ، و توليه تلك الرعاية ، و تحيطه بتلك العناية
الفائقة ، لا بد و أن تكون زوجة فاضلة . غير أن الشاعر لم يبادلها قط بما
كان يلقى منها ، و لم يذكر شيئاً من عطفها و حنانها في ديوانه ، و لا خصها
ببيت واحد يدل على محبته لها أو امتنانه لما كان يلقاه من حبها و حسن
معاملتها . إن الزواج الشابي لم يهبه الإطمئنان الذي كان يحلم به ، فانقاد ،
بعد عام واحد من زواجه ، إلى الحب الذي لم يعثر عليه مع زوجته ، فطلبه في
حب فتاة خارج بيته ، كان قد عشقها منذ عهد الطفولة . و لكن الأقدار شاءت أن
تموت الفتاة باكراً ، فترك موتها في نفسه أسىً عميقاً تردد في أشعار
الفترة الأولى من حياته الشعرية . و ظل الشاعر يذكر هذا الحبّ لفترة طويلة
سرعان ما حمل نفسه أخيراً على نسيانه ، فأعاطه قلبه العليل ، فانتقل إلى
حبّ جديد ثم إلى آخر فآخر . على أنّ موضوع حب الشابي يحتاج إلى دراسة
مستقلة لن نتوقف عنده الآن ، لأنه يحتاج إلى عرض و مناقشة ليس مكانهما في
هذه المقدمة .
بالإضافة إلى الصدمة التي تلقاها الشاعر في زواجه و في
حبه الأول ، فقد تعرض إلى كارثة كبرى تمثلت بوفاة والده ، و لم يكن الشاعر
قد نال بعد إجازة الحقوق . و شغل الشاعر الشاب بعلاج والده و الإهتمام به
من الناحية المادية و النفسية . و حين أحس الشاعر بقرب وفاة والده ، انتقل
به إلى مسقط رأسه " توزر " حيث توفي الشيخ الوالد في شهر أيلول من العام
1929 . و كانت وفاته خسارة كبرى هزت أركان الشاعر و بدلت نظام حياته ، بل
كانت أكبر كارثة بتعرض لها في حياته و تؤثر على صحته و تصيب قلبه إصابة
مباشرة . و بموت والده ، ألقيت على أبي القاسم أعباء مالية لم تمنعه من
إتمام دراسته في كلية الحقوق في تونس و التخرج عام 1930 بإجازة الحقوق .
و
في ديوانه إشارات واضحة و صريحة إلى تلك الكارثة التي ألمت به ، يظهر ذلك
جلياً في قصيدته " يا موت " التي رثى بها والده حيث تقول :
يا موتُ ، قد مزقتَ صدري و قصمت بالأرزاء ظهري
و فجعتني
في منْ أحبُّ و منْ إليه أبثُّ سري
و رزأتني في عمدتي و مشورتي في كل
أمرِ
ثم يعود في قصيدته " قيود الأحلام " فكيف لنا عن الأعباء
التي ينوء تحتها و تتمثل بالقيام بأعباء العائلة التي تركها والده حين يقول
:
لكنني لا أستطيع فإنّ لي أماً يصدُّ حنانها
أوهامي
و صغارَ أخوانٍ يرون سلامهم في الكائنات معلقاً بسلامي
فقدوا
الأبَ الحاني فكنتُ لضعفهمْ كهفاً يصدُّ غوائلَ الأيامِ
لكن
الشاعر استطاع أن يتجاوز تلك المرحلة حيث تحسنت حال المادية و عاد إليه بعض
التحسن الصحي ، يدل على ذلك ما جاء في إحدى قصائده التي يقول فيها :
ما كنتُ أحسبُ بعد موتك يا أبي و مشاعري عمياءُ بالأحزانِ
أني
سأظمأ للحياة و أحتسي من نهرها المتوهج النشوانِ
و أعود للدنيا بقلب
خافقٍ لحبّ و الأفراح و الألحانِ
فإذا أنا ما زلتُ طفلاً مولعاً بتعقب
الأضواء و الألوانِ
كان الشابي على إثر تخرجه من الزيتونة ، أو
قبل بقليل ، يعلم أنه مريض في قلبه ؛ لكنّ أعراض الداء لم تظهر عليه واضحة
إلاّ سنة 1929 ، و كان والده قد رغب إليه في أن يتزوج . فلم يجد أبو القاسم
بداً من أن يستشير طبيباً ، ليوفق بين رغبة والده و بين مقتضيات حالته
الصحية . و قد توجه الشابي برفقة صديقه الصحفي السنوسي لاستشارة الدكتور
محمد الماطري ، النطاسي البارع في تونس ، و لكن لم يكن قد مضى عليه يومذاك
في ممارسة الطبّ سوى عامين . و بسط الدكتور الماطري للشابي حالة مرضه ، و
حقيقة أمر ذلك المرض كما ذكر له أن هناك حالاتٍ كثيرةً آراء كبار الأطباء
في مرض القلب . غير أنه حذره على كل حالٍ عواقب الإجهاد الفكري و الجسدي . و
بناء على رأي الدكتور الماطري و امتثالاً لرغبة والده عزم الشابي على
الزواج . و لكن يبدو أن حياته الزوجية لم تبدأ فعلاً قبل عام 1930 .
لكن
الشابي ، يبدو أنه كان يحمل بذور مرضه منذ طفولته ، فقد ازدادت حالته
الصحية تدهوراً بعد الزواج لأسباب متعددة : منها تطور المرض مع الزمن ، ثم
ضعف بنية الشاعر ، و الأحوال السيئة التي كانت تحيط به في حياته الطالبية ،
و وفاة والده ، و حبيبته الصغيرة ، و إهماله لنصائح الأطباء في الاعتدال
في حياته الفكرية و الجسدية .
و قد عالج الشابي مجموعة من أطباء القلب و
منهم الطبيب الفرنسي الدكتور كالو ، و كانوا ينصحونه بالإقامة في الأماكن
المعتدلة المناخ . ثم بدأت النوبات القلبية الحادة تنتاب الشاعر قبل أن
يرزق ولده البكر في أواخر عان 1931 . أما أخا الشاعر محمد الأمين الشابي
فإنه يروي للسنوسي خبر نوبة انتابت الشاعر عام 1930 حيث يقول : " كان يعتلج
من ضائقة صدرية من ذات القلب فزعت لها أمه و زوجته ( و أخوه ) عندما كان
أبو القاسم يخرز لهم بعينين لا ترجوان معونة من أحد ، إلاّ من قلبه لو
استعاد اتزانه … نوبة دامت ساعتين يقلب في أثنائهما وجهه و لا ينبس إلا
بقطرات من العرق تتلألأ على وجهه بالجهد الذي تبذله الحياة لتحقيق وجودها .
و نحن نشرئب لنغيثه بشيء يطلبه ( و لا ندري ما هو ) … ساعتين من هذا الفزع
الجهيد تقريباً …. ثم هجعت النوبة ، إذ لان وجهه و رأينا عينيه تطمئناننا
عن فوزه بالراحة . و بالفعل هيؤ و بدأ يسوي ثيابه و رقبة قميصه . ثم تكلم
منشرحاً صوته انشراح من حط وزره و نزع الحمل الجهيد ، و بادرنا للاستجابة
لأمره مغتبطين :
أعطني ورقاً ، و القلم من جيب فرملتي . ( و أعطيناه ما
طلب ) . فأخذ يكتب حالاً . أذكرها الآن ، فهي هذه القصيدة :
يا إله الوجود ، هذي جراح في فؤادي تشكو إليك الدواهي و لم
يحسن الشابي مداراة مرضه ، بل استمر يرهق نفسه بما كان الأطباء قد نهوه عنه
" .
و قضى الشابي صيف 1932 مستشفياً و راح يتنقل بين المصايف و
المنتجعات ، و لكنّ ذلك لم يجده نفعاً . بل ساءت حاله في آخر عام 1933 و
اشتدت عليه الآلام فاضطر إلى ملازمة الفراش حتى إذا مرّ الشتاء و أقبل
الربيع حلام عليه أطباؤه الكتابة و المطالعة و طلبوا إليه أن ينتقل إلى "
حامة تورز " طلباً للراحة و هي موضع فيه عين ماء حار تستشفي بها بعض العلل .
و أخيراً أعيا الداء على التمريض المنزلي ، فغادر الشابي إلى العاصمة حيث
دخل مستشفى الطليان في الثالث من تشرين الأول سنة 1934 قبل وفاته في التاسع
منه عند الساعة الرابعة صباحا من نهار الاثنين . و نقل جثمانه في أصيل ذلك
اليوم إلى " توزر " و دفن فيها . و قد نال الشابي بعد وفاته عناية كبرى ، و
تألفت عام 1946 لجنة لإقامة ضريح له نقل رفاته إليه باحتفال مهيب في
الثالث عشر من شهر أيار سنة 1946 حضره جمع غفير من رجال العلم و الأدب و
السياسة .