قصة قصيرة
قبضة الفراغ
عبدالله محمد حسين هيوستن
أخذت العاصمة تغرق في صمت مشوب بالقلق، وتلاطم كالأمواج.. فراغ سياسي مجهول الأبعاد، بعد أن اجتاح أرجاءها البلاغ الذي أعلنه الزعيم الليلة الماضية على رؤوس الأشهاد، مباغتاً الجميع حتى المقربين منه برغبته الخاصة والمفاجئة في التخلي عن مقاليد السلطة.. حيث طلع عليهم مرتدياً أناقته ومعلقاً ابتسامة غير معهودة بزاوية فمه، وتلا بصوت حازم قراره الغامض المقتضب:
«نعلن لشعبنا العظيم ولأمتنا المجيدة عن رغبتنا في التخلي طواعية عن السلطة، ونترك لكم فرصة اختيار من ترونه مؤهلاً لتولي دفة الحكم، وسأصبح من الآن فرداً من هذا الشعب الذي أتمنى له العزة والازدهار». توارى عن الأنظار دون أن يترك وراءه من ينوبه.. افتقدته قصوره الأربعون وحاشيته وحرسه الخاص.
قبل أن تتفكك هياكل النظام، سارع مجلس القيادة للاجتماع لتدارس الأوضاع.. تحلقوا حول طاولة مستديرة حتى لا يكون فيهم يمين ويسار. أبحرت نظراتهم تائهة في صمت مطبق، خانت الشجاعة ألسنتهم السليطة وكأن الزعيم يتصدر الاجتماع فتحاورت الرتب العالية بعيونها المذعورة. لم يتجرأ واحد من الأركان ويخرج من صمته ليدفع قرار الزعيم إلى حلبة النقاش، أو يتعرض لمصير النظام.. كاد أن ينفض الاجتماع وينفرط عقد المجتمعين صامتين لولا جرأة مفاجئة واتت نائب رئيس مجلس القيادة، ربما بدافع الشعور بالمسؤولية فاقترح أن يلقوا نظرة خاطفة على مكتب الزعيم المشرع الأبواب لعله ترك وصية تعينهم على الخروج من محنتهم. حملتهم أقدامهم بخطوات مترددة متئدة عبرت بهم البهو مرتجفة حتى بلغوا المكتب. استقبلتهم نفحة من رائحة السيجار الهافاني الأنيق فتخيلوه داخل خلوته يدخن ممدداً رجليه في جلسة استرخاء. المكتب الأنيق يكتظ بمهابة الزعيم التي استقبلتهم، لقد أضحت أكثر حضوراً وأوسع نفوذاً بغيابه. أوشك الرفاق أن يخروا ساجدين لولا أن تداركهم خجل من حارسه الأمين، الواقف خلف كرسي تطل فوقه صورة الزعيم بنظرته الحادة الساهمة، فابتلع كل منهم لعابه الذي أوشك أن يسيل على كري الرئاسة.. على المكتب يرقد سلاحه المهيب، الذي لم يغفله لحظة منذ نعومة أظفاره، مسنوداً إلى جراب الذخيرة، ساكناً كأنما فارقته الحياة.. إلى جانب المسدس يسترخي خطاب، التقت الأعين عليه مبتهجة، ارتدت لتتشاور، تهور النائب مرة ثانية فسبقته يده المتلهفة إلى الخطاب، ارتجف الخطاب المبجل في يده، فكر في إعادته إلى مستقره تعضضه نظرات مشجعة من الرفاق. فضته أصابع مرتجفة.. طالعته مفردات القرار مشرعات كالنصال، طافت فوقها عيون الرفاق.
امتلأت العيون وجلاً، امتزج الوجل بحيرة، انبثق من هذا المزيج خوف شديد، أرجف القلوب الجسورة؛ سرعان ما استحال الخوف رعباً استبد بالجميع.. توهموا الزعيم واقفاً خلف الستارة بيده رشاش، أو متأهباً أسفل مكتبه للانقضاض على من يقترب من المكتب الذي نصب لهم فخاً، فلم تسول لأحد منهم نفسه اعتلاء كرسي الرئاسة، بل سرت في أجسادهم، رعدة، ودب وهن شديد.. شحذوا ما تبقى من قوة ليغادروا المكتب صامتين.
في الرواق الممتد سمعوا وقع خطى ثقيلة تتبعهم، وانبثقت من بين الأعمدة رائحة سيجار راحت تطاردهم حتى بلغوا حديقة القصر لاهثين. في سماء الحديقة فرد نسر هائل جناحيه سد بهما الأفق شاهراً فوق رؤوسهم مخالبه الجارحة.. فرّوا جميعاً مذعورين.
سقط في أيديهم، تأرق ليلهم الطويل. ما معنى هذا القرار؟ ألا يكون ابتلاء يريد منه التأكد من حسن الولاء؟! هل يتركون الحبل على الغارب ليثبتوا له زهدهم في السلطة، وماذا لو أخذ المتربصون زمام المبادرة؟ أمام هذه الأسئلة المحيرة آثروا الصمت حتى تتكشف الأسباب وراحت الأسئلة تتكاثر كالجراثيم. أما أجهزة الأمن الخاصة والعامة، فقد شعرت ولأول مرة أنها المستهدفة، أخذت ترزح تحت وطأة وهم المراقبة. قد يكون الزعيم مندساً بين صفوف رجالها ليحصي أنفاسهم، ويكشف فسادهم. كفوا عن كتابة التقارير وكظموا الأسرار ولاذوا بالصمت منتظرين الفرج. واستمرأ الصمت المشوب بالحذر أيضاً رجال الصحافة والإعلام المتأهبين للرد على من يحاول النيل من سمعة القائد أو التعرض للنظام، وضعوا الأقلام المشروعة، لم يفندوا مزاعم وكالات الأنباء ووسائل الإعلام العارية من الصحة حول تنازل الزعيم عن السلطة، صمتوا مرغمين أمام تلك التكهنات التي وصفت ما حدث بأنه مؤامرة، ولم يردوا على من أسهب في الحديث عن انقلاب قام به الجيش بدعم من المعارضة، والجيش لم يتزحزح من ثكناته قيد أنملة متجاهلين أنه هو من أوصل الزعيم إلى دفة الحكم.
الأفضل حالاً كما يبدو إبان الأزمة أفراد الشعب؛ لأنهم تعلموا في عهده الممتد أكثر من ثلاثة عقود أن يغلقوا أفواههم عن القيل والقال، وأن يغمضوا عيونهم عما يجري أمامهم من الأهوال، وأن يضعوا في آذانهم وقراً كلما ضجت من حولهم الأصوات. التزموا الصمت إزاء الحدث التاريخي وكأنما الأمر لا يعنيهم فاختفاء الزعيم مسألة تخص الكبار ولا يدس عاقل أنفه في السياسة وليحمدوا الله ما داموا مطمئنين على الأرواح.
في اختفاء الزعيم الذي طال، عشعشت أصناف من الإشاعات، ما دام قد أعلن عن أنه سيصبح فرداً من أبناء الوطن، وقدعهد عنه أنه يقرن الأقوال بالأفعال، لذا لم يشكوا أنه يعيش بين ظهرانيهم، وأنه يغشى مجالسهم؛ ليشاركهم أفراحهم وأتراحهم؛ ليجس بنفسه نبض حبهم وولائهم. كان شبهه واحداً، والآن صار الشبه أربعين. الكل يروي أنه قابل الزعيم في الشارع. وأحدهم يؤكد بأغلظ الأيمان أنه قضى سهرة كان الزعيم فيها من بين الحضور يشرب الشاي، وآخر يقسم أن مهابته شاركهم أفراح عرسهم وكان آخر المودعين. في البدء تقبلوا هذا التواجد، لكن صار الاحتراز والحيطة واجباً، وتشددوا في الانضباط، كفوا عن المزاح، فالزعيم حازم وامتنعوا عن رواية النكات، فقد تفسر: أنها من مظاهر الفرح إبان محنة اختفاء القائد.
أعياهم مرور الوقت ومحاذرة زلات اللسان، فصانوا ألسنتهم، ثم خلت المجالس والمقاهي من السمار وأقفلت المنازل على أهلها الأبواب.
انداح الفراغ صمتاً مطبقاً، وتداعى فغدا نهراً جارفاً غمر البلاد بمخاوف لم تعشها من قبل، حتى في أحلك الأزمان، حتى الليالي التي مزقها القصف كان فيها متنفس للكلام، وكان الخوف فيها موجات، يشتد عندما تمطرهم السماء قذائف، ثم ينحسر فتعود الحياة، حتى الأيام التي أنشب الحصار فيها مخالبه كانوا متصالحين مع النظام، يأخذ ما يريد. له حصة الأسد أو ما يزيد ويترك لهم الفتات. مات من مات جوعاً أو مرضاً؛ لكن كانوا قادرين على الشكوى والكلام. كانت مشاعرهم وأحلامهم ملكاً لهم لم تستبح، أما اليوم فقد صار الزعيم يقتحم أحلامهم، يتحكم في أنفاسهم.. أصبحت قبضته تتدلى في سمائهم كمطرقة من حديد، تتحرك كبندول ساعة، تمسك أصابعه بجهاز تحكم عن بعد. ينقر نقرة فيغدو النهار ظلاماً، وينقر أخرى فيطبق الصمت على الآفاق ويدخل الجميع في سبات.
لقد أثقل الصمت البلاد والعباد. صار الجميع لا يتفكهون الكلام حتى في خلوة الذكر بأنثاه، لم يعودوا ينعمون بطعم الكلام إلا في الصلوات، ولا يشمون عبقه ويسمعون جرسه إلا في الخطب المقتضبة التي يصيغها الخوف، فصارت تستهل بتعداد مناقب الزعيم ومزاياه، وتختم بالدعاء والترجي من الله بأن يخرج الزعيم للعيان.