شأن كل العلوم التي تتقدم وتتطور مع تعاقب الأمم والحضارات، قامت
العلوم الطبيعية عند العلماء المسلمين في بدئها على مؤلَّفات اليونان، تلك
التي استند فيها اليونانيون على الفلسفة المجردة في محاولاتهم فهم
الطبيعة، ودون أن يكون للتجربة دور يذكر في تلك المحاولات.. غير أن
العلماء المسلمين ما لبثوا أن طوَّروا هذا الأساس وجعلوا علم الفيزياء
عِلمًا يستند إلى التجربة والاستقراء، عوضًا عن الاعتماد على الفلسفة أو
التأملات والأفكار المجرَّدة.
وغير ما قدمناه في المقالين السابقين، وأثبتنا في الأخير منهما أسبقية
العلماء المسلمين إلى اكتشاف قوانين الحركة الثلاثة وأيضًا قانون
الجاذبية، فقد كان هناك إنجازات أخرى رائدة في علم الفيزياء، تُحسَبُ لهم
ويحق لهم أن يفخروا بها..
وفي ذلك فقد اهتم العلماء المسلمون بعلم الصوت وبحثوا في منشئه وكيفية
انتقاله، فكانوا أول من عرف أن الأصوات تنشأ عن حركة الأجسام المحدِثة
لها، وانتقالها في الهواء على هيئة موجات تنتشر على شكل كروي، وهم أول من
قسم الأصوات إلى أنواع، وعلَّلوا سبب اختلافها عن الحيوانات باختلاف طول
أعناقها، وسعة حلاقيمها وتركيب حناجرها.
وكانوا أول من علَّل الصدى، وقالوا: إنه يحدث عن انعكاس الهواء المتموج
من مصادفة عالٍ كجبل أو حائط، ويمكن أن لا يقع الحس بالانعكاس لقرب
المساحة؛ فلا يُحَسُّ بتفاوت زماني الصوت وانعكاسه. وكان من أوائل علماء
المسلمين الذين اهتموا بعلم الصوت ابن سينا، وهو الذي برهن على أن البصر
أسرع من السمع؛ لأن السمع يحتاج المرء فيه إلى تموج الهواء!
وفي علم السوائل ألّّف العلماء المسلمون فصولاً متخصصة في كيفية حساب
الوزن النوعي لها؛ إذ ابتدعوا طرقًا عديدة لاستخراجه، وتوصلوا إلى معرفة
كثافة بعض العناصر، وكان حسابهم دقيقًا ومطابقًا - أحيانًا - لما هو عليه
الآن، أو مختلفًا عنه بفارق يسير.
وقد أبدع الخازني - بجانب إبداعه في علم الفلك - في حقل الفيزياء
أيَّما إبداع، وخاصة موضوعي: الحركية (الديناميكا)، وعلم السوائل الساكنة
(الهيدروستاتيكا)، لدرجة أدهشت الباحثين الذين أتوا بعده، ولا تزال
نظرياته تُدرَّس في حقل الحركية في المدارس والجامعات إلى يومنا هذا، ومن
هذه النظريات نظرية الميل والانحدار ونظرية الاندفع، وهاتان النظريتان
لعبتا دورًا مهمًّا في علم الحركية.
وكما يقول الدكتور علي عبد الله الدفاع في كتابه (العلوم البحتة في
الحضارة العربية والإسلامية): فإن الكثير من المؤرخين في تاريخ العلوم
يعتبرون الخازني أستاذ الفيزياء لجميع العصور، وقد أجمعوا على أنه فاق
أساتذته (ابن سينا والبيروني وابن الهيثم) في هذا المضمار. وقد خصص
الخازني جُلَّ وقته لدراسة موضوع السوائل الساكنة، فاخترع آلة لمعرفة
الوزن النوعي للسوائل، وناقش ضمن دراسته موضوع المقاومة التي يعانيها
الجسم من أسفل إلى أعلى عندما يُغمَر في سائل. واستخدم الخازني نفس الجهاز
الذي استخدمه أستاذه الكبير أبو الريحان البيروني في تعيين الثقل النوعي
لبعض المواد الصلبة والسائلة، ووصل الخازني في مقاديره إلى درجة عظيمة من
الدقة، لفتت انتباه معاصريه ومن تبعهم.
وحريٌ بنا هنا أن نقدم الجدول الذي أورده العالم الإيطالي ألدوميلي في
كتابه (تاريخ العلوم عند العرب)، والذي أجرى فيه مقارنة للأوزان النوعية
لبعض المواد كما توصل إليها كل من البيروني والخازني مع مقارنتهما بالقيمة
المعروفة اليوم والمعمول بها في جميع أنحاء المعمورة:
المادة عند الخازني عند البيروني القيمة الحالية
الذهب 19.05 19.26 19.26
الزئبق 13.59 13.74 13.56
النحاس 8.38 8.92 8.85
الحديد 7.74 7.82 7.79
القصدير 7.15 7.22 7.29
الرصاص 11.29 11.40 11.35
الزمرد 2.62 2.73 2.73
اللؤلؤ 2.62 2.73 2.75
الكوارتز (البلور) 2.58 2.53 2.58
كما يثبت ألدوميلي في كتابه المذكور آنفًا أن: الخازني استعمل ميزان
الهواء (Aerometer) لاستخراج الثقل النوعي للسوائل بكل نجاح. ويبين الجدول
التالي النسبة التي توصل إليها الخازني ومقارنتها بالنسب الحديثة التي حصل
عليها علماء العصر الحديث باستخدام الأجهزة العلمية المعقدة؛ فقد أجاد
الخازني في استخدام هذا القياس، ولم يزد خطؤه على 6% من الجرام الواحد في
كل ألفين ومائتي جرام!
المادة النسبة عند الخازني النسبة الحديثة
ماء جاف حرارته في درجة الصفر 0.965 0.9999
ماء البحر 1.041 1.027
زيت الزيتون 0.920 1.91
لبن البقر 1.110 1.04 – 1.42
دم الإنسان 1.033 1.45 – 1.075
وفي مادة الهواء ووزنه يقول كل من حميد موراني وعبد الحليم منتصر في
كتابهما (قراءات في تاريخ العلوم عند العرب): "لقد سبق الخازني تورشيللي
في الإشارة إلى مادة الهواء ووزنه، وأشار أن للهواء وزنًا وقوة رافعة
كالسوائل، وأن وزن الجسم المغمور في الهواء ينقص عن وزنه الحقيقي، وأن
مقدار ما ينقصه من الوزن يتوقف على كثافة الهواء، وبين أن قاعدة أرشميدس
لا تسري فقط على السوائل، ولكن تسري أيضًا على الغازات، وكانت مثل هذه
الدراسات هي التي مهدت لاختراع البارومتر (ميزان الضغط)، ومفرِّغات الهواء
والمضخات، وما أشبه؛ وبهذا يكون الخازني قد سبق تورشيللي وباسكال وبويل
وغيرهم".
كما بحث المسلمون كذلك في كيفية حدوث قوس قزح، وعرفوا المغناطيس
واستفادوا منه في إبحارهم، ومن المحتمل أن بعض العلماء قد أجرى التجارب
البدائية في المغناطيسية.
وبالجملة كانت المعلومات عن الميكانيكا والبصريات والضوء والصوت
وخلافها من مباحث علم الطبيعة مبعثرة لا رابط بينها، وكانت تُبحَث قبلَهم
من منظور يستند إلى المنهج العقلي والبحث الفلسفي، وكان المغلوط فيها أكثر
من الصواب؛ فاستنتج العلماء المسلمون نظرياتٍ جديدةً وبحوثًا مبتكرة لبعض
المسائل الفيزيائية التي طرحها اليونان من جانبٍ نظريٍّ بحتٍ، فتوصلوا من
خلال بحثهم إلى بعض القوانين المائية، وكانت لهم آراء في المرايا المحرِقة
وخواص المرايا المقعَّرة، والثقل النوعي، وانكسار الضوء وانعكاسه، وعلم
الروافع.
إنجازات المسلمين في الفيزياء.. وأثرها في الحضارة الغربية
مما سبق يتضح أن إنجازات المسلمين الفيزيائية بصفة عامة لم تكن يسيرة
ولا بالأمر الهين، وخاصة إذا أضفنا إليها ما كان من اكتشافهم لقوانين
الحركة وقانون الجاذبية..
وقد وصل تأثير هذه في الحضارة الغربية حدًا اعترف فيه الغربيون أنفسهم
بأنه ما كان بوسعهم أن يُقدموا للعالم حضارتهم لولا هذه الإنجازات، ويكفي
في هذا السياق الإشارة إلى قول العالم همبرلد: "لقد ارتقى العرب في علم
الفيزياء كثيرًا، وذلك لبحثهم العميق في قوى الطبيعة ووقوفهم على الحوادث
الفيزيائية عن طريق التجربة والتي كان القدماء قبل العرب يجهلونها".
وقول حيدر بامات أيضًا في كتابه (إسهام علماء المسلمين في الحضارة):
"يجب اعتبار العرب مؤسسي علم الفيزياء، وعلى رأسهم أبو علي الحسن بن
الهيثم والبيروني، فهما المبتكران للكثير من نظريات هذا الحقل".
وعن الأمثلة الفردية في ذلك؛ فقد أثرت أبحاث أبي الريحان البيروني في
الثقل النوعي في الحضارة الغربية أيما تأثير، وإنه لينبغي عند تقدير هذه
النتائج المدهشة التي توصل إليها أبو الريحان - كما يقول الدكتور جمال
مرسي - أن نستحضر في الذهن أنَّ ألفًا من السنين تفصل بين زماننا وزمانه،
وأن نذكر أن عُدَّته من الأدوات والأجهزة لم تكن لتقارن بما لدى علماء
اليوم.. ومع ذلك فقد وصل أبو الريحان إلى نتائج تكاد تكون هي ما وصل إليه
المحدَثون.
أما الخازني فقد كان مفتاحًا علميًا بالنسبة لتورشللي في البحث في وزن
الهواء وكثافته، والضغط الذي يحدثه، وقد اخترع الخازني ميزانًا لوزن
الأجسام في الهواء وفي الماء ظلَّت أوروبا تستعين به حتى القرون الوسطى،
وهذا بالإضافة إلى استعانة أوروبا بدقة موازين المسلمين في مجال الوزن
النوعي, وثقل الهواء, وآلات الروافع, والجاذبية.
وأما كتابه (ميزان الحكمة) فقد استفاد منه علماء الغرب أيما استفادة؛
حيث تُرجِم من العربية إلى لغات مختلفة كثيرة، وقد امتدحه جورج سارتون في
كتابه (المدخل إلى تاريخ العلوم) فقال: "إن كتاب ميزان الحكمة من أجلّ
الكتب التي تبحث في حقل السوائل الساكنة، وأروع ما أنتجته القريحة
الإسلامية في القرون الوسطى".
وإن من أكثر التصريحات الغربية في أثر إنجازات المسلمين من حيث التفصيل
العلمي قول العلامة بلتون: "إن العرب كانوا يعرفون ثقل الهواء، ولهم وسائل
متقنة وموازين دقيقة لاستخراج الوزن النوعي لأكثر السوائل والجوامد التي
تذوب في الماء, ولهم في ذلك جداول على النحو المستعمل الآن".
وقد اعترف فلندرز بتري اعترافًا عمليًا بدقة الموازين عند المسلمين
والتنوع فيها، حيث قام بوزن ثلاثة نقود عربية قديمة فوجد أن الفرق بين
أوزانها جزء من ثلاثة آلاف جزء من الجرام ثم عقَّب على ذلك قائلاً: "إنه
لا يمكن الوصول إلى هذه الدقة في الوزن إلا باستعمال أدق الموازين
الكيميائية الموضوعة في صناديق من الزجاج حتى لا تؤثر فيها تموجات الهواء،
وبتكرار الوزن مرارًا حتى لا يبقى فرق ظاهر في رجحان أحد الموازين على
الآخر، ولذلك فالوصول إلى هذه الدقة مما يفوق التصور, ولا يُعلَمُ أن
أحدًا وصل إلى دقة في الوزن مثل هذه الدقة".
وهذا التصريح - خصوصًا - يشير إلى مدى اهتمام المسلمين بالحركة
والسكون, ومركز الثقل, وجر الأثقال بالقوة اليسيرة، وقد أَلَّفُوا في ذلك
مؤلفاتٍ ذات قيمة، استعان بها الفيزيائيون اللاحقون.
وهناك تصريحًا آخر لدونلد ر.هيل جاء فيه: "عرف المسلمون جدولة الأوزان
النوعية قبل الأوروبيين بكثير, وبدأ الاهتمام الشديد بهذا الموضوع في
أوروبا إِبَّان القرن السابع عشر الميلادي، وبلغ ذروته في عمل روبت بويل
(ت 1691م) الذي عين الوزن النوعي للزئبق - على سبيل المثال - بطريقتين
مختلفتين، تعطيان المقدارين 13.76 و 13.357 وكلاهما أقل دقة من القيمة
التي سجلها الخازني الذي كانت معظم نتائجه دقيقة تمامًا"!!
وإن هذه الإنجازات أولاً وأخيرًا إنما تعبر - في بعض ما تعبر عنه -
عمّا كانت عليه الحضارة الإسلامية من تقدم، وما كانت فيه من رقي، سعت فيه
إلى خدمة البشرية جمعاء..
ونسأل الله أن يُعيد للأمة سالف مجدها وحضارتها، وأن تتيقَّظ همم المسلمين وعقولهم للنسج على منوال أجدادهم العظام..