إن الله لا يحب الفرحين
إن المقاصد المثيرة للفرح برمتها منها ما هو شريف ومنها غير شريف، والإسلام بشرعته ومنهاجه يحرض أتباعه في كل حين على أن يفرحوا بما يحمد ويذكر، من الأمور والأعمال الظاهرة والباطنة؛ ولأجلها نهاهم - جل وعلا - عن أن يفرحوا بزخرف الدنيا ومتاع الحياة الزائل، أو يفرحوا بالسطوة في الأرض بغير الحق، أو يفرحوا فرح الاعتزاز أو الادخار الكاذب: وَفَرِحُواْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ (26) سورة الرعد، ذَلِكُم بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ (75) سورة غافر.
الفرح شأنه شأن الوعاء، الحكم عليه مبني على ما يكون فيه من المادة الداعية إليه، فالفرح إنما يكون محموداً حينما تجده في مقابل نعمة التوفيق بطاعة من الطاعات، أو قربة من القربات، أو كفرحة المجاهد الذي قهر شهواته، وقاوم رغباته، أو كانتصار ما يحبه الله على ما لا يحبه، وكذا دفع الباطل بالحق فإذا هو زاهق: وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ* بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (4-5) سورة الروم.
وإن للمسلمين كل الحق في أن يبتهجوا ويفرحوا؛ إذا نالوا نعمة خالصة، أو أمنية خالية من شوائب الحظوظ العاجلة في دينهم ودنياهم مما يضر ولا ينفع، ولكنهم يفرحون إذا فرحوا فرح الأقوياء والأتقياء، وهم في الوقت نفسه لا يبغون ولا يزيغون ولا ينحرفون عن الصواب ولا يتعسفون، ناهيكم عن كونهم يعمرون فرحتهم بذكر ربهم الذي أتم عليهم نعمته، ورزقهم من الطيبات، وهيأ لهم في كونه كثيراً من أسباب البهجة والسرور، بل ولربما تعدى الأمر إلى أبعد من ذلك حتى إلى مقابلة الابتلاء والامتحان بالفرح لما يفضي إليه، من محو للسيئات، ورفع للدرجات.
فعن أبي سعيد الخدري - رضي الله تعالى - عنه قال: دخلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يوعك؛ فوضعت يدي عليه؛ فوجدت حره بين يدي فوق اللحاف، فقلت: يا رسول الله! ما أشدها عليك! قال: (إِنَّا كَذَلِكَ يُضَعَّفُ لَنَا الْبَلَاءُ، وَيُضَعَّفُ لَنَا الْأَجْرُ)، قلت: يا رسول الله! أي الناس أشد بلاء، قال: (الْأَنْبِيَاءُ)، قلت: يا رسول الله ثم من؟ قال: (ثُمَّ الصَّالِحُونَ، إِنْ كَانَ أَحَدُهُمْ لَيُبْتَلَى بِالْفَقْرِ حَتَّى مَا يَجِدُ أَحَدُهُمْ إِلَّا الْعَبَاءَةَ يُحَوِّيهَا، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمْ لَيَفْرَحُ بِالْبَلاءِ كَمَا يَفْرَحُ أَحَدُكُمْ بِالرَّخَاءِ)2.
الفرح المحمود - عباد الله - يترجم في الواقع بما تحمله في طيات نفسك لأخيك المسلم، فتفرح لفرحه، وتسر لوصول النعمة إليه، أضف إلى ذلك الفرح حينما يسلم عبد أو يتوب عاصٍ، كما فرح الصحابة - رضي الله عنهم - بإسلام الفاروق - رضي الله عنه - أو غيره من الصحابة، لا الازدراء الموجه تجاه من يتمسك بدينه، ويعتز بكونه من ركاب الصالحين والطائفة الناجية المنصورة.
قال أبو هريرة - رضي الله عنه -: "كنت أدعو أمي إلى الإسلام وهي مشركة، فدعوتها يوماً، فأسمعتني في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أكره، فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا أبكي قلت: يا رسول الله! إني كنت أدعو أمي إلى الإسلام فتأبى علي، فدعوتها اليوم فأسمعتني فيك ما أكره؛ فادع الله أن يهدي أم أبي هريرة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (اللَّهُمَّ اهْدِ أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ)، فخرجت مستبشراً بدعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما جئت وصرت إلى الباب فإذا هو مجافى، فسمعت أمي خجف قدمي فقالت: مكانك يا أبا هريرة، وسمعت خضخضة الماء، قال: فاغتسلت ولبست درعها، وعجلت عن خمارها، ففتحت الباب ثم قالت: يا أبا هريرة أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، قال: فرجعت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأتيته وأنا أبكي من الفرح قلت: يا رسول الله! أبشر قد استجاب الله دعوتك، وهدى أم أبي هريرة، فحمد الله وأثنى عليه"3 الحديث.
والفرح المحمود - يرعاكم الله - في مثل فرح الصائم بفطره الذي عناه المصطفى - صلى الله عليه وسلم - بقوله:
(لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا: إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ بِفِطْرِه،ِ وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ)4.
الفرح المحمود فرح المؤمن بشريعة ربه، وأمره ونهيه، وعدم التقديم بين يدي الله ورسوله، بل يفرح أشد الفرح إن كان ممن عناه الله بقوله: إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ
(51) سورة النــور، أو ممن قال الله فيهم: وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الأَحْزَابِ مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ (36) سورة الرعد.
ففي هاتين الآيتين دعوة محضة للارتقاء بفرح القلب بالإسلام ومجيء المصطفى - صلى الله عليه وسلم - خلافاً لمن يشاققون بها أو يناقشون يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِين* قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ (57-58) سورة يونس.
عباد الله:
إن الجانب الآخر من جانب الفرح هو الفرح المذموم، وهو الذي يولد الأشر والبطر، وهو ما كان ناتجاً عن الغفلة والخواء، وقد ذكر بعض المفسرين في قوله - تعالى-: مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) سورة الناس، أن الشيطان الوسواس ينفث في قلب ابن آدم عند الحزن وعند الفرح، فإذا ذكر الله خنس، والشخص المكثر من الفرح في الإسراف مما هو متاع الدنيا وزخرفها هو المعني بمثل قوله - تعالى-: إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) سورة القصص، وليس من شأن المسلم أن يكون مفراحاً إلى درجة الإسراف؛ إذ ما من شيء من أمور الدنيا إلا والإسراف يشينه كما أن الاعتدال يزينه، إلا عمل الخير ولذلك قيل: لا خير في الإسراف ولا إسراف في الخير.
ومن هذا المنطلق فإن الإسراف في الفرح سواء كان في الأعراس أو شبهها مدعاة للخروج عن المقصود، بل ولربما أدى إلى الوقوع فيما لا يرضي الله من معاصي أو ضجيج وأهازيج تقلق الذاكر، وتنغص الشاكر.
تعلمون - عباد الله - الحديث الدال على أن شدة الفرح مدعاة للوقوع في الخطأ كما في قصة صاحب الراحلة حين قال:
(اللهم أنت عبدي وأنا ربك)، ناهيكم عن ذم الفرح بالمعصية، والمجاهرة بها، والافتخار في نشرها، أو الشروع بالألقاب والمدائح لفاعلها، ووصفهم بالتحرر أو التنور بما يصيغونها فيه على هيئة مقالات أو روائيات على حين فترة من التذكير بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا الْمُجَاهِرِينَ)5.
ومن الطوام العظام في الفرح المذموم فرح المرء بالعمل، وإظهاره للناس، والتسميع والمراءاة به، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ، وَمَنْ يُرَائِي يُرَائِي اللَّهُ بِهِ)6.
ويشتد الأمر خطورة حينما يفرح المرء بما لم يفعل من باب الرياء والتكبر ففيهم يقول - جل وعلا -:
لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188) سورة آل عمران.
ومثل ذلك في الخطورة فرح المرء بتقصيره في طاعة الله، أو تخلفه عن ركب الصلاح والاستقامة، ونكوصه عن دعوة الداعي وأمر الآمر، ونهي الناهي فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللّهِ وَكَرِهُواْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81) سورة التوبة7.
فإن التاريخ - غالباً - يخلد أسماء المتميزين! سواء كان تميزهم في الخير أو في الشر! فيسطر التاريخ أسماء العظماء، الذين دخلوا من أوسع بوابات التاريخ، علماء عاملين، وقادة فاتحين، وأمراء عادلين، وعباد متهجدين مجتهدين، وكرماء حلماء، أو فرسان أتقياء، ويدون أسماء آخرين برزوا في الشر، واجتهدوا في الفساد والإفساد، حتى أصبحوا أئمة يقتدى بهم في الشر! وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ (41) سورة القصص، ولله في إيجادهم حكمة.
ومن هؤلاء قائد التجار الفجار إلى النار، صاحب الخزائن التي يعجز الرجال عن حمل مفاتيحها، فكيف بما فيها؟! صاحب الحلة الفارهة، واللباس الفاخر؛ إذ كان ينظر في عطفيه، ويجر إزاره مختالاً فخوراً، متبختراً متكبراً، خرج على قومه في زينته، خرج يتبختر بمشيته يهز أكتافه، قد أعجبته نفسه، سرح شعره، وتباهى بزينته، حتى أخذت زينته بالأبصار لأول وهلة: قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) سورة القصص.
إلا أن أهل العلم والإيمان ينظرون ببصائرهم قبل أبصارهم؟ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ (80) سورة القصص، كانت عاقبة البغي والكبر فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81) سورة القصص، عند ذلك بان لأهل الدنيا ما كان فيه قارون من غرور: وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82) سورة القصص.
وفيما أخبر به نبيـنا - صلى الله عليه وسلم -: (بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي قَدْ أَعْجَبَتْهُ جُمَّتُهُ وَبُرْدَاهُ إِذْ خُسِفَ بِهِ الْأَرْضُ فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِي الْأَرْضِ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ)8.
إن قارون في ظل طغيان المال لم يستمع إلى نصح الناصحين، ولم يلتفت إلى شفقة الخائفين
إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) سورة القصص، نعم إن الله لا يحب الفرحين، لا يحب الأشرين البطرين، الذين يدفعهم الفرح إلى مجاوزة الحدود، ويخرجهم الأشر إلى العدوان، ويحملهم البطر إلى ازدراء الخَلْق، أما إن الناصحين لم يطالبوا قارون بالتخلي عن دنياه، ولا إنفاق كنوزه، بل طلبوا منه أن يوازن بين الدارين وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ثم ذكروه بأصل هذه الـنعم فقالوا: وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ والمعنى: قابل الإحسان بإحسان، وبعد أن رغبوه حذروه من مغبـة عمله، فقالوا: وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) سورة القصص، فما كان جواب المتكبر المتجبر الباغي؟! قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي! قال أبو سليمان الداراني: أراد العلم بالتجارب ووجوه تثمير المال، فكأنه قال: أوتيته بإدراكي وبسعيي! وقال ابن عطية: ادعى أن عنده علماً استوجب به أن يكون صاحب ذلك المال وتلك النعمة. ا هـ.
ولئن مات قارون فقد أبقى ذكره السيئ! فلا يذكر بخير! ولئن ذهب قارون فقد بقي له ورثة! حملوا غطرسته، وتبنوا أفكاره! اعتدوا بذواتهم! وتاهوا على الورى بما أوتوا مما لم يكن لهم في كثير منه حول ولا قوة! فلا هم اختاروا آباءهم، ولا أوجدوا أنفسهم من عدم، بل خلقهم الله من ضعف، وهم خلق لا يتماسك، فما يلبث أن يرد إلى ضعف.
وورثة قارون باقون على مر الأزمان! وهكذا هو الإنسان بطبعه الكنود الجحود كما بين الله - تعالى-: فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، وإذا كان الأمر كذلك فـقَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ، بل: فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ، فبسط الرزق على الكافر لا يدل على كرامته أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (49-52) سورة الزمر؛ وذلك لأن الدنيا دار امتحان.
ومن ورثة قارون من إذا وسع له في رزقه حمله ذلك على التمادي في المعاصي! زاعماً أنه إنما أوتي ما أوتي لكرامته على الله، والله يقول: فَأَمَّا الإنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ فهذا مغرور، ويقابله جاحد وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ، وليس الأمر كما ظنوا، فقد نفى الله ذلك بقوله:كَلا(15-17) سورة الفجر.
قال ابن القيم - رحمه الله -: "رد الله سبحانه على من ظن أن سعة الرزق إكرام، وأن الفقر إهانة، فقال: لم أبتلِ عبدي بالغنى لكرامته عليَّ، ولم أبتله بالفقر لهوانه عليَّ"، والمعنى: "ليس كل من وسعت عليه وأعطيته أكون قد أكرمته، ولا كل من ضيقت عليه أكون قد أهنته؛ فالإكرام أن يكرم الله العبد بطاعته والإيمان به، ومحبته ومعرفته، والإهانة أن يسلبه ذلك"
فأراه الله ضعفه وعجزه على يدي طفل صغير، قال له: لقد أتت الأوائل بثمانية وعشرين حرفاً فأت أنت بحرف واحد! فبهت الذي تكبر! وانقطع الذي تجبر.
(قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا)
فإن الله تعالى لم يحرم على عباده الفرح إذا كان على أمر يستحق أن يفرح الإنسان من أجله، وإن أولى ما يفرح به المسلم دينه الذي أكمله الله ورضيه له.
قال تعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ *قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ) [يونس:57-58].
قال الحافظ ابن كثير- رحمه الله تعالى- في تفسيره:
(يقول تعالى ممتناً على خلقه بما أنزله من القرآن العظيم على رسوله الكريم (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ ) أي زاجر عن الفواحش (وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ ) أي من الشبه والشكوك وهو إزالة ما فيها من رجس ودنس، (وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ) أي يحصل به الهداية والرحمة من الله تعالى، وإنما ذلك للمؤمنين به المصدقين الموقنين بما فيه، كقوله تعالى (وَنُنَـزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا )، وقوله (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ ) الآية، وقوله تعالى (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا ) أي بهذا الذي جاءهم من الله من الهدى ودين الحق فليفرحوا فإنه أولى ما يفرحون به (هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ) أي من حطام الدنيا وما فيها من الزهرة الفانية الذاهبة لا محالة) أ.هــ
قال ابن عباس وقتادة ومجاهد والحسن وغيرهم : (فضل الله الإسلام ، ورحمته القرآن ، والرحمة منها خصوصية) . كما قال
أبو سعيد الخدري رضي الله عنه : ( فضل الله القرآن ، ورحمته أن جعلنا من أهله ) وقد جاء التذكير بفضل الله ور حمته بعد قوله تعالى : (يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين) وشفاء الصدور إنما هو معافاةٌ من أدواء القلب وظلمته ؛ من الجهل والغي والظلمة والفساد ؛ مما يستقله العبد في حياته فإذا قيل له : هذا ركب الانتقال من دار الزوال إلى دار البقاء تيقظ وعلم غفلته في عشق الدنيا ومصاحبة أهلها ، وأما محب الآخرة وطالب الأنس بالله فيقول قولَة معاذ بن جبل لما قيل له : ما تشتهي قبل موتك؟ قال : ليلة باردة أقومُها كلها ، أو قولَة فالح سألوه : ما همك من الدنيا؟ قال : ركعتان تكونان خالصتين لله تعالى.
طالب الدنيا همه في المال والجاه والدور والقصور والشهرة والمنصب والشاء والحذاء والكساء والنساء ، وطالب القرب من الله شأنه : إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي ؛ فيا ابن آدم لا يضادك في الله تعالى إلا نفسك ؛ انظر إلى نفسك إن أتتك الذكرى قال تعالى (والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك ) ؛ أما المعرض والهالك فشأنه ( وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم ).
الفرح بالله مقام عظيم ( قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون ).
عيد الناس في الطعام واللباس الجديد والزيارات والكلام ، وعيد العارفين في صدق التوبة وحسن الالتجاء وقبول الطاعات والسرور بلقيا المؤمنين يتصافحون ، وكل منهما يقول لصاحبه : اللهم اغفر لي ولأخي هذا ، وليس في قلب واحد منهما غل لصاحبه ؛ فأين العيد ياقوم؟ لا تجعلوا المعرفة علة في أمنكم وأمانكم.
معرفة من دون عمل وبال ، ومن ازداد علما ولم يزدد هدى لم يزدد من الله إلا بُعدا. كل إنسان أدرى بنفسه. إذا قيل له : قال الله ؛ قال رسول الله ؛ فأين موقعه وأين التزامه؟ وأين سروره واستبشاره؟ ( وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون ).
فحيهلا إن كنت ذا همة فقد حدا بك حادي الشوق فاطو المنـازلا
ولا تنتظر بالسير رفقـة قاعـد ودعه فان الشوق يكفيك حاملا