نشأة علم الاجتماع :
على الرغم من أن التفكير الاجتماعي قديم قدم الإنسان نفسه، فإن الاجتماع
الإنساني لم يصبح موضوعاً لعلمٍ إلا في فترة لاحقة. وكان أول من نبه إلى
وجود هذا العلم، واستقلال موضوعه عن غيره، هو ابن خلدون . فقد صرح في
عبارات واضحة أنه اكتشف علماً مستقلاً ، لم يتكلم فيه السابقون ، إذ يقول:
"وكأن هذا علم مستقل بنفسه، فإنه ذو موضوع، وهو العمران البشري، والاجتماع
الإنساني، وذو مسائل، وهي بيان ما يلحقه من العوارض والأحوال لذاته، واحدة
بعد أخرى، وهذا شأن كل علم من العلوم، وضعياً كان أو عقلياً " (2). .
ويقول أيضاً: "واعلم أن الكلام في هذا الغرض مستحدث الصنعة، غريب النزعة،
أعثر عليه البحث، وأدى إليه الغوص. . . . ولعمري لم أقف على الكلام في
منحاه لأحد من الخليقة، ما أدري: ألغفلتهم عن ذلك، وليس الظن بهم؟ أو
لعلمهم كتبوا في هذا الغرض، واستوفوه، ولم يصل إلينا؟ " (3).. كما أنه لم
يكتفِ بذلك، بل دعا القادرين إلى استكمال ما نقص منه: "ولعل من يأتي بعدنا
ممن يؤيده الله بفكر صحيح، وعلم مبين، يغوص من مسائله على أكثر مما كتبنا
" . وإضافة إلى ذلك فإن مقدمته شملت على أقل تقدير سبعة من فروع علم
الاجتماع المعاصر، ناقشها ابن خلدون في وضوح تام .
ولكن على الرغم من ذلك، وعلى الرغم من قول عالم الاجتماع الشهير جمبلوفتش
: لقد أردنا أن ندلل على أنه قبل أوجست كونت، بل قبل فيكو الذي أراد
الإيطاليون أن يجعلوا منه أول اجتماعي أوروبي، جاء مسلم تقي، فدرس الظواهر
الاجتماعية بعقل متزن، وأتى في هذا الموضوع بآراء عميقة، وإن ما كتبه هو
ما نسميه اليوم علم الاجتماع ، على الرغم من ذلك كله، فإن التأريخ لعلم
الاجتماع يقف عند كونت . الفرنسي باعتباره المنشئ الأول لهذا العلم.
ويتجاهل بذلك المؤسس الحقيقي لهذا العلم الذي نبه عن وعي وفي وضوح إلى
اكتشافه لهذا العلم.. ومهما كانت ظروف النشأة الجديدة فإن من النكران
للجميل، والظلم أيضاً عدم الاعتراف لابن خلدون بفضله في هذا المجال.
وعلى كل حال، فإن ابن خلدون لم يخلفه خلف يتمم ما بدأ، ويبني على ما أسس.
لقد نشأ علم الاجتماع المعاصر نشأة مستقلة، في بيئة أخرى غير بيئة ابن
خلدون. لقد نشأ العلم الحديث في أوروبا على يد أوجست كونت، حيث نحت له هذا
الاسم: "علم الاجتماع "، وقد كانت هذه النشأة الغربية مرتبطة أشد الارتباط
بظروف التحول الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والفكري، التي كان يمر بها
المجتمع الأوربي في ذلك الوقت، بحيث نستطيع أن نقول: إن علم الاجتماع
الغربي بكافة اتجاهاته وفروعه النظرية، قد تطور استجابة للتطورات
والمشكلات الاجتماعية في مرحلة الانتقال من النظام القديم إلى النظام
الجديد .