لو كـان الحنـان قصراً لكنت أنت بابه
بماذا يبدأ خط قلمي عندما يطلب مني الكلام عن أعظم إنسان في الوجود
مداد القلب لن يكفي ....
لو أكتب به لإرضائك
...
وخفق الروح لن يجزي ... عبيرأ فاح بعطائك... أيتها
الأم
يا من شربـت من عطائهـا كؤوسـا ..
ونسجت من حبهـا عقداً ..
ولبست من حنـانها تاجاً ..
وبنيت من حبهـا في أسوار قلبي قصوراً
هاهي أحرفي أجدهـا مبعثرة أمـام وفائك .. !!
وهاهي كلماتي خانتني في لجج عطائك ..
تتهادى كل الأحزان ببسمة حانية على محياك ..
وتطرب بداخلي الأسماع بكل كلمة تنطق بها شفتاك ..
لو
كـان الحنـان قصراً كنت أنت بابه
أمي....
لا تؤم القلوب إلا إليك ...ولا تلين الصخور إلا لحنانك ....أنت الحب... والجنة تحت قدميك ....
يا أمي ..
يا زهرة في جوفي قد نبتت ، أعرف كم تعبت ِ من أجلي ، وكم صرخةَ
ألم ٍ
سببتها لكِ ، أعرف أنني عشت في أحشائك ِ .. أكبرُ .. وأكبرُ
..وأعرف أنك لا زلتي
ترويني بتحنانك ..
يا درة البصرِ ،و يا لذة النظر ...
لكم ضمتني عيناكِ ،و احتوتني يمناكِ .. وكم أهديتي القٌبلَ من
شهد
شفتاكِ .. لأرقد ملء أجفاني ... وأرسم حلو أحلامي .. وكم
أتعبتِ من جسد ٍ، وكم أرّقتِ من جفنٍ .. وكم ذرفتِ من دمعٍ لأهنأ
وأعيش في أمن ِ ، ويوم فرحتُ لا أنسى صدق بسماتك و تغاضيك عن آلامك .. ويوم أروح
لا أدري طريق العَوْدِ يا أمي... فلن أنسى خوف نبضاتك.. ويوم أكون في نظرك ..
تضميني إلى صدرك .. واسمع صوت أنفاسك .. وألتف على أغصانك .. أعيش نشوة العمرِ .. بحسن البر وبالإحسان
أوصاني.. وجمعه بتوحيدٍ وإيمانِ
وأنا
اخط هاته الكلمات تفكرت قصة قد قرأتها يوما. ضاق صدر يوسف أصغر
أفراد أسرته من إلحاح أمه التي تجاوزت الثانية والثمانين من العمر فقد كانت تسأل عن كل
أمرعدة مرات وذلك لنقص قد أصاب مسامعها وفي أحد الأيام وبينما هما يتناولان الطعام ،
وإذا بصوت غريب يصدر قرب النافذة المفتوحة فقالت الأم : ما هذا الصوت ؟
قال يوسف إنه صوت غراب!
قالت الأم:لم أفهم! ماذا قلت؟
إنه غراب يا أمي! قلت لك إنه غراب!
لم أسمعك جيداً! ما هذا الصوت؟
كاد يوسف ينفجر وهو يقول بضيق: كم مرة سأضطر للجواب! إنه غراب .. غراااااب ...
بصعوبة أشارت الأم بيدها إلى مصنف قديم في خزانة الكتب ..
وطلبت
من ابنها أن يعطيها إياه! فأحضره بضجر وخصوصاً أن الغبار يعلوه! قائلاً: هل هو من مصنفات المرحوم أبي ...
تجولت أصابع الأم المرتعشة بين الأوراق ... إلى أن استقرت عند صفحة ما
فأخذت تتأملها من خلال نظارتها السميكة... ثم قالت بصوت خافت: إقرأ .... يا بني ....
نظر يوسف إلى المصنف فوجد كتابة قديمة تعلوه وتذكر أنه يضم أحلى الذكريات،
إن عمر هذا المصنف يقارب عمر يوسف أي ثلاثين عاماً تقريباً.
بدأ الابن يقرأ : اليوم أكمل ابننا يوسف سنته الرابعة وها هو
يمرح
ويركض في الحديقة هنا وهناك وبينما كنا نحتفل به حصل أمر غريب
إذ حام غراب في طرف
الحديقة وصار يصدر بعض الأصوات.... فسألني ابني ما هذا الصوت؟
فقلت له إنه غراب فعاد وسألني نفس السؤال ثلاث عشرة مرة ثم انتقل
إلى أبيه فسأله نفس السؤال خمس عشرة مرة .. وكلما قلنا له إنه صوت غراب عاد فكرر السؤال
وكأنه لم يسألنا من قبل ... وكنا نحضنه ونقبله وسرورنا لا يوصف ..
لقد كنا سعداء جداً في ذلك اليوم وتمت سعادتنا بتلك
الأسئلة التي صار يوسف يصر على إعادتها ... إنها مسؤوليتنا أن نجيب على كل سؤال يطرحه
أولادنا ولو كرروه مئات المرات
ارتجف يوسف من رأسه إلى قدميه ونظر إلى أمه فلم ير وجهها الذي غطته
بيديها …
لم يستطع أن يتكلم
فقد
خنقته دموعه .. ولم ير أمامه إلا لوحة كبيرة كتب عليها قول
الله تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ
أَلاّ َتَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَن
عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلا
تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا ّ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ
الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَة وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ( ...
فسبحـان من جعلك بحراً من العطاء بلا زبد وشجرة مورقة الثمار تعطي بلا أمد ..
العَيْـشُ مَاضٍ
فَأَكْـرِمْ وَالِدَيْـكَ بِـهِ
والأُمُّ أَوْلَـى بِـإِكْـرَامٍ وَإِحْـسَـانِ
وَحَسْبُهَا الحَمْـلُ وَالإِرْضَـاعُ تُدْمِنُـهُ
أَمْـرَانِ بِالفَضْـلِ
نَـالاَ كُلَّ إِنْسَـانِ
بقلم لخضر ع