مقدمة
احتفلت الجزائر بمرور36 سنة على تأميم المحروقات، وذلك يوم 24 /2/ 2008، علما بأن هذا العام يوافق الذكرى الخمسين على استخراج أول برميل بترول من جوف منطقة الجلاح عام 1956، ويعتبر قرار تأميم المحروقات من القرارات الشجاعة والحاسمة التي أعلن عنها الرئيس الراحل هواري بومدين في خطابه التاريخي الذي ألقاه على الرابعة من مساء يوم 24 /2/ 1971 أمام إطارات الإتحاد العام للعمال الجزائريين UGTA بعد الفشل الذي منيت به المفاوضات الجزائرية الفرنسية بشأن نصوص تضمنتها معاهدة إيفيان الموقعة في 7 مارس 1962.
سيما منها ذات الصلة بحماية مصالح فرنسا وامتيازاتها في استغلال ثروات البترول في الصحراء ضمن ما عبرت عنه هذه الاتفاقية بعبارة مطاطة ومبهمة هي "التعاون العضوي"Organic-co-operation، لقد بدأت تلك المفاوضات عام 1969 على أمل الإنتهاء منها في جويلية عام 1970 والخروج بنتائج ترضي الطرفين، وكان رئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقة الذي شغل منصب وزير الخارجية أنذاك قد قام بعدة جولات ماراطونية ذهابا وإيابا بين العاصمتين الجزائر وباريس للقاء زميله وزير الصناعة (إكزافيه أورتولي) "Xavier Ortoli" المكلف بملف المحادثات التي كانت عالية المستوى والتمثيل الدبلوماسي، لكن بعد سنة منها لم تنته إلى نتيجة، لاسيما وأن الطرف الفرنسي كان مصرا على مواقفه وأبدى تصلبا كبيرا لصالح شركاته البتروليية على حساب حق من حقوقنا الذي يعد من صميم سيادتنا الوطنية. والطريف في الأزمر أنه في الوقت الذي كان فيه الفرنسيون شبه متيقنين على أن المفاوضات ستكون لصالحهم، على اعتبار أن الجزائريين في نظرهم ليسوا مؤهلين وغير قادرين على تأميم بترولهم لجملة من الأسباب في مقدمتها ضعف الإمكانات وانعدام الكوادر التي بإمكانها الاضطلاع بتداعيات مثل هذه القرارات الاستثنائية التي قد ترهن البلاد لمصير مجهول، كان الطرف الجزائري يفاوض برأس مرفوع وثقة مطلقة في النفس، فهو ببساطة يملك بحوزته أوراقا سحرية يقرأها فتكشف له جميع الأسرار التي يخفيها المفاوض الآخر، ويعمل على الضغط بها عند كل لقاء ومحادثة، الشيء الذي دفع بالطرف الفرنسي في بداية شهر2 من عام 1971 إلى إعلان وقف المفاوضات بمبادرة منه أمام دهشته وانبهاره للقدرات الخارقة التي أبداها المفاوض الجزائري الذي أعرب على لسان الرئيس هواري بومدين عن موقفه الصريح المتمثل في قرار تأميم المحروقات ظهيرة يوم 24/2/ 1971، وكان بحق قرارا صائبا وعظيما أعاد الحق الى أصحابه الأصليين مما جعل صحيفة لوموند أن تكتب إثر ذلك "إن الجزائر أصبحت حاملة لواء الدول البترولية التي تريد التحرر من وصاية الشركات الأجنبية منطلقة في سباق لاسترجاع ثرواتها، حيث تمضي في الطليعة الآن للوصول* إلى* هذا* الهدف*"،* وبالفعل* فقد* حذت* حذو* الجزائر* في* قرار* تأميم* المحروقات* كل* من* العراق* عام* 1972* وليبيا* عام* 1973*..
رشيد* ثابتي*.. اللغز* الذي* حيّر* العالم
ومن دون شك فإن القارئ يتساءل عن سر تلك "الأوراق السحرية" التي كانت بحوزة المفاوض الجزائري، وكانت بالفعل قوة دفع له في فرض وجهة نظره وموقفه حول قضية هي كما سبق وقلنا تعد من صميم السيادة الوطنية؟
إن الجواب على هذا السؤال اللغز هو موجود في يد شخصية جزائرية ظلمها التاريخ ولم يعطها حقها من الظهور والاعتراف ومن ثمة التقدير البالغ الذي تستحقه، والدليل على ذلك أن أغلب من سألناهم عنها بمن فيهم الجامعيون والمهتمون بشؤون التاريخ، ردوا بالسلب والجهل التام! فكيف يكرمون شخصا لم يسمعوا أو يقرأوا عنه شيئا! إنه الأستاذ رشيد ثابتي المحامي لدى المحكمة العليا، والمتقاعد الآن في شقته بالأبيار نتيجة إصابته بمرض باركنسون الناجم عن المنازلات العديدة في فن الملاكمة الذي كان أحد أبطالها أثناء دراسته بفرنسا، حيث تحصل على لقب بطلها الجامعي عن جدارة في الوزن المتوسط وكان مدربه جون بريتونال شديد الإعجاب بشجاعته وفنياته العالية (أنظر الصورة)، الأستاذ رشيد ثابتي الذي وجدنا صعوبة بالغة في الحوار معه بسبب المرض اللعين الذي لازمه في شيخوخته (76 سنة)، و ضاعف من أزماته لولا الدواء المهدئ الذي يتعاطاه بشكل منتظم وتساعده في ذلك رفيقة عمره وإبنه الوحيد أنيس المتخرج من الجامعة بشهادة ليسانس في العلوم الاقتصادية.. هذا الرجل العظيم الذي يستهين به اليوم كل من يراه وهو طريح الفراش هو المايسترو الحقيقي وراء قرار إعلان تأميم المحروقات، ولولاه لحرمت الجزائر الآن من الطفرة البترولية التي تنعم بها بعد ما بلغ سعر البرميل أرقاما قياسية وانتفاخ الخزينة بالبترودولار، كل ذلك بفضل النجاح الساحق الذي حققه هذا الرجل في عملية جوسسة نادرة المثال، تتفوق في تفاصيلها وحبكتها عما كتبه سان أنطونيو وأغاثا كريستي! في رواياتهما الخيالية. كما أن بطلها الذي خاطر بحياته طوال فترة تلك العملية التي استغرقت حوالي ثلاث سنوات متواصلة، يصلح أن يكون نجما هوليوديا بأتم ما تعنيه هذه الكلمة من معنى! ترى كيف حصلت هذه العملية المشوقة ذات الفصول المنسوجة بعناية فاقة الإحكام؟