تعتبر الحضارة الصينية من أقدم وأعرق الحضارات وذلك ليس في آسيا وحدها ولكن في حضارات العالم أجمع ، وليس هناك أنسب من قول فولتير ووصفه لتلك الحضارة حين قال: "لقد دامت هذه الإمبراطورية أربعة آلاف عام دون أن يطرأ عليها تغير يذكر في القوانين ، أو العادات ، أو اللغة ، أو في أزياء الأهلين. وإن نظام هذه الإمبراطورية لهو في الحق خير ما شهده العالم من نظم".
وهذا الإجلال الذي ينظر به علماء ذلك الوقت إلى بلاد الصين قد حققته دراستنا لتلك البلاد عن كثب ، والذين خبروا تلك البلاد وعرفوها حق المعرفة قد بلغ اعجابهم بها غايته. أنظر إلى ما قاله الكونت كيسرلنج Count Keyserling في خاتمة كتاب له يعد من أغزر الكتب علما وأعظمها نفعا وأبرعها تصويراً:
"لقد أخرجت الصين القديمة أكمل صورة من صور الإنسانية. وكانت فيها صور مألوفة عادية. وأنشأت أعلى ثقافة عامة عرفت في العالم كله. وإن عظمة الصين لتتملكني وتؤثر قيّ كل يوم أكثر من الذي قبله. وإن عظماء تلك البلاد لأرقى ثقافة من عظماء بلادنا. وإن أولئك السادة لهم طراز سام من البشر. وسموهم هذا هو الذي يأخذ بلبي. إن تحية الصيني المثقف لتبلغ حد الكمال. وليس ثمة من يجادل في تفوق الصين في كل شأن من شئون الحياة. ولعل الرجل الصيني أعمق رجال العالم على بكرة أبيهم".
والصينيون لا يهتمون كثيراً بإنكار هذه الأقوال ، وقد ظلوا حتى هذا القرن )ماعدا نفراً قليلاً في الوقت الحاضر( مجمعين على أن أهل أوربا و أمريكا برابرة همج. وكان من عادة الصينيين قبل سنة 1860 أن يترجموا لفظ "أجنبي" في وثائقهم الرسمية باللفظ المقابل لهمجي أو بربري ، وكان لا بد للبرابرة أن يشترطوا على الصينيين في معاهدة رسمية إصلاح هذه الترجمة. والصينيون كمعظم شعوب الأرض "يرون أنهم أعظم الأمم مدنية وأرقهم طباعاً". ولعلهم محقون في زعمهم هذا رغم ما في بلادهم من فساد وفوضى من الناحية السياسية ، ذلك أن ما وراء هذا المظهر المظلم الذي يبدو الآن لعين الغريب عن بلادهم مدنية من أقدم المدنيات القائمة في العالم وأغناها: فمن ورائه تقاليد قديمة في الشعر ، يرجع عهدها إلى عام 1700 ق. م ، وسجل حافل بالفلسفة الواقعية المثالية العميقة غير المعجزة الدرك ، ومن ورائه براعة في صناعة الخزف والنقش لا مثيل لها من نوعها ، واتقان مع يسر لجميع الفنون الصغرى لا يضارعهم فيه الا اليابانيون ، وأخلاق قويمة قوية لم نر لها نظيراً عند شعوب العالم في أي وقت من الأوقات ، ونظام إجتماعي ضم عدداً من الخلائق أكثر مما ضمه أي نظام آخر عرف في التارخ كله ودام أحقابا لم يدمها غيره من النظم ، ظل قائما حتى قضت عليه الثورة ويكاد ان يكون هو المثل الأعلى للنظم الحكومية التي يدعو اليها الفلاسفة ؛ ومجتمع كان راقيا متمدنا حين كانت بلاد اليونان مسكن البرابر ة؛ شهد قيام بابل و آشور ؛ وبلاد الفرس و اليهود ، و أثينا و روما و البندقية و أسبانيا ، ثم شهد سقوطها كلها ، وقد يبقى بعد أن تعود بلاد البلقان التي نسميها أوربا إلى ما كانت عليه من جهالة وهمجية. ترى أي سر عجيب أبقى هذا النظام الحكومي تلك القرون الطوال ، وحرك هذه اليد الفنية الصناع ، وأوحى إلى نفوس اولئك القوم ذينك العمق والاتزان؟