• المنفى :
كان من الشجعان الحكماء الذين يحسب لهم ألف حساب، ومواقفه في ذلك لا تكاد
تحصر، ومنها على سبيل المثال ما حدث له عام 1940 م إبان الاستعمار الفرنسي
للجزائر عند ما أصدر الوالي العام أمر اعتقال الإبراهيمي في ساعة مختارة
طبقاً للإجراءات المقررة؛ حتى لا يقع تجمع في الشوارع.
وقبيل اعتقال الإمام الإبراهيمي جرب الفرنسيون وسيلة كانوا يستنْزلون بها
الهمم، ويشترون الذمم، وهي وسيلة الترغيب التي تعودوا استعمالها مع الذين
أخلدوا إلى الأرض، وأتبعهم الشيطان؛ فلم يعيشوا لمبدأ، وقضوا حياتهم
يأكلون ويتمتعون كما تأكل الأنعام.
فبعثوا إليه القاضي ابن حورة يعرض عليه منصب شيخ الإسلام الذي سيحدث لأول
مرة في الجزائر في مقابل تصريح يؤيد فيه فرنسا التي كانت طرفاً في الحرب
العالمية الثانية، والمشاركة في تحرير صحف أنشأوها، وفي كتابة محاضرات
تسجل للإذاعة مقابل مِنَحٍ مغرية، فخيب ظنهم، ورفض كل تعاون معهم.
وكرر الفرنسيون المحاولة، واستدعت إدارة تلمسان الشيخ، وحاولت إقناعه
بسداد طلب الحكومة، فرفض، فقيل له : ارجع إلى أهلك، وودعهم، وأحضر حقيبتك
- يعني أنك ذاهب إلى السجن -.
فقال لهم: قد ودعتهم، وهاهي حقيبتي جاهزة.
ولما علم الإمام الشيخ عبد الحميد بن باديس بموقف أخيه الإمام الإبراهيمي
ازداد إكباراً له، وإعجاباً به، وكتب إليه رسالة عام 1940 قبيل وفاته - أي
ابن باديس - بثلاثة أيام، ما نصه:
(( الأخ الكريم الأستاذ البشير الإبراهيمي - سلمه الله –
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته وبعد
فقد بلغني موقفكم الشريف الجليل العادل فأقول لكم :(( الآن يا عمر ))
فقد صنت العلم والدين، صانك الله وحفظك، وتَرِكَتـَك، وعظَّمتها عظَّم
الله قدرك في الدنيا والآخرة، وأعززتهما أعزك الله أمام التاريخ الصادق،
وبيضت محُيَـَّاهما بيض الله محياك يوم لقائه، وثبتك على الصراط المستقيم،
وجب أن تطالعني برغباتك، والله المستعان.
والسلام من أخيك عبد الحميد بن باديس ))
كما أنه قد زج به في السجن بعد أحداث مايو 1945، وبقي فيه عاماً كاملاً
ذاق الأمرين في زنزانة تحت الأرض؛ حيث الظلمة، والرطوبة مما استدعى نقله
إلى المستشفى العسكري بقسنطينة؛ فتحمَّل هذه المحنة بصبر المجاهد، ويقين
المؤمن.
• رئاسة جمعية العلماء:
بعد خروجه من المنفى أعاد نشاط جمعية العلماء في بناء المساجد وتأسيس
المدارس، وإصدار جريدة البصائر في سلسلتها الثانية بعد أن توقفت أثناء
الحرب، وتولى رئاسة تحريرها، وكانت مقالاته الافتتاحية فيها نسيجًا فريدًا
من نوعه في النبض العربي الإسلامي.
ولما تزايدت أعداد خريجي المدارس الابتدائية رأى "البشير الإبراهيمي"
ضرورة الانتقال إلى المرحلة الثانوية، فدعا هو وزملاؤه العلماء الأمة
الجزائرية إلى الاكتتاب في إنشاء معهدٍ ثانويٍّ، فاستجابت الأمة للدعوة،
وأنشئ هذا المعهد الذي أطلق عليه معهد "عبد الحميد بن باديس" تخليدًا
لذكراه، واستقبل المعهد طلابه في سنة (1367هـ= 1948م)، وكانوا ثمانمائة
طالب، ثم تزايدت أعداد الطلاب بعد ذلك، ومن بين تلاميذ هذا المعهد كان
دعاة الحركة التحريرية بالجزائر، حين تقدمت الوفود المؤمنة إلى معركة
الاستقلال بحمية مشتعلة، ومن خريجيه تشكلت أولى البعثات العلمية الجزائرية
إلى مصر والعراق وسوريا؛ حيث اعترفت بشهادة هذا المعهد جامعات الشرق
العربي، وأصبح في وسع خريجيه الالتحاق بكلية دار العلوم والجامع الأزهر
بالقاهرة، وجامعة بغداد وجامعة دمشق.
• رحلة "البشير الإبراهيمي" إلى المشرق العربي:
غادر "الإبراهيمي" الجزائر العاصمة سنة (1371هـ= 1952م) متجهًا إلى المشرق
العربي في رحلته الثانية التي دامت عشر سنوات حتى استقلال الجزائر سنة
(1381هـ= 1962م)، وكانت جمعية العلماء قد كلفته القيام بهذه الرحلة لتحقيق
ثلاثة أهداف :
· بذل المساعي لدى الحكومات العربية لقبول عدد من الطلاب الجزائريين الذين تخرجوا من معاهد جمعية العلماء في جامعاتها.
· طلب معونة مادية لجمعية العلماء لمساعدتها في النهوض برسالتها التعليمية.
· الدعاية لقضية الجزائر التي نجحت فرنسا في تضليل الرأي العام في المشرق بأوضاع المغرب عامةً والجزائر خاصةً.
واستقر بـ"الإبراهيمي" المقام في القاهرة، وشرع في الاتصال بمختلف الهيئات
والمنظمات والشخصيات العربية الإسلامية في القاهرة وبغداد ودمشق والكويت،
ونشط في التعريف بالجزائر من خلال المؤتمرات الصحفية، والمحاضرات العامة
التي كان يلقي كثيرًا منها في المركز العام للإخوان المسلمين، وكان بيته
في القاهرة ملتقى العلماء والأدباء وطلبة العلم.
وسبق وصول "البشير" إلى القاهرة بعثة جمعية العلماء التي ضمت 25 طالبًا
وطالبةً، وكانت بعثات الجمعية تقتصر على مصر وحدها للدراسة في الأزهر
والمدارس المصرية، غير أن "البشير" تمكن من الحصول على عدد آخر من المنح
التعليمية للطلاب الجزائريين في البلاد العربية الأخرى، واتخذ من القاهرة
مقرًّا يشرف منه على شئون هذه البعثات في بغداد ودمشق والكويت، وكان يقوم
بين الحين والآخر بزيارة هذه البلاد؛ لتفقد أحوال الطلاب الجزائريين
والسعي لدى حكوماتها من أجل الحصول على منح جديدة.
وكان "الإبراهيمي" يعلق آمالاً واسعة على هؤلاء الطلبة المبعوثين، فلم
يألُ جهدًا في تصحيحهم وإرشادهم وتذكيرهم بالوطن المستعمر، وبواجبهم نحو
إحياء ثقافتهم العربية الإسلامية التي تحاربها فرنسا وتحاول النيل منها،
وقد أثمرت جهوده التي بذلها تجاه هؤلاء المبعوثين عن نجاح ما يقرب من
معظمهم في دراستهم الثانوية والجامعية، وساهموا في تحقيق الفكرة العربية
الإسلامية التي كان يؤمن بها العلماء، وفي أثناء إقامته بالقاهرة اختير
"الإبراهيمي" لعضوية مجمع اللغة العربية المصري سنة (1380هـ= 1961م).
• الإبراهيمي وقضايا العالم الإسلامي:
لم يقتصر وجود "البشير" على قضايا الجزائر، بل امتدت لتشمل كثيرًا من
قضايا العالم الإسلامي، فاهتم بالقضية الفلسطينية، ودعا الأمة الجزائرية
لصوم أسبوع في الشهر والتبرع بنفقاته لصالح فلسطين، وحمل على فرنسا؛
لموافقتها على قرار تقسيم فلسطين، وأعلن تضامنه مع جهاد المصريين سنة
(1370هـ= 1951م) ضد الاحتلال الإنجليزي، ودعا العرب والمسلمين إلى تأييد
مصر في جهادها، ودافع عن استقلال ليبيا، وطالب أهلها باتفاق الكلمة،
وتوحيد الرأي وقوة الإيمان بالحق، وحذرهم من مكائد الاستعمار.
• العودة بعد استقلال الجزائر:
ولما أعلن استقلال الجزائر عاد "البشير الإبراهيمي" إلى وطنه، خطب أول
صلاة جمعة من مسجد (كتشاوة) بقلب العاصمة الجزائرية، وكان هذا المسجد قد
حوله الفرنسيون إلى كتدرائية بعد احتلالهم الجزائر.
وقد نقلت الإذاعة خطبتي الجمعة إلى الأمة، فأعادت كلماته للكثيرين من
رفاقه وغيرهم أعذب الذكريات، ولزم "الإبراهيمي" بيته بعد أن أثقلته
السنون، وأوهنه المرض، وأحزنه تنكر البعض لجهاده وأثره في إحياء الأمة،
وكانت مقاليد البلاد تجري في أيدي من تنكروا للإسلام وأداروا ظهورهم له،
رأى الشيخ المجاهد أن ثمرة ما زرعه هو ورفاقه من العلماء قد وقع في كف من
لا يقدرون قدرها.
• وفاة "البشير الإبراهيمي":
بعد عودة الشيخ "البشير الإبراهيمي" لزم بيته، ولم يشارك في الحياة العامة
بعد أن كبر سنه وضعفت صحته، حتى لاقى ربه يوم الخميس الموافق (18 من
المحرم 1385هـ= 19 من مايو 1965م) بعد حياة حافلة بجلائل الأعمال، وخرجت
الأمة تودعه بقلوب حزينة وأعين دامعة، تعبيرًا عن تقديرها لرجل من رجالات
الإصلاح فيها، وأحد بناة نهضتها الحديثة.
[/size]
وفي الأخير أود القول أن هذا قليل قليل في حق شيخنا واود القول أيضا أن هذا ليس كل شيء فمن أراد عنه أي شيء فليعلمني بذلك .
ورحمة الله على شيخنا الجليل وعلى كل شهداء الجزائر.