كانت *رهف * فتاة مفعمة بالحياة ، تحب أسرتها حبا بليغا ؛ ترعى القطيع.. وتساعد والدتها في أشغال البيت التي لا تنتهي .. وكان لها أخ أحدب اسمه( تيمور )، يكبرها بعامين .. وكان تيمور لا يسلم من سخرية أهل الدوار .. فكانوا يسخرون منه ومن شكله ، وكانوا يلقبونه : بـ "تيمور الأحدب" .
"تيمور" لم يقف عيبه حاجزا أمام رغبته في العيش والانذماج مع أهل البلدة ، فكان يقف ندا قويا لهم.. لا يهاب أحدا غير الله .. وكان حين يغضبه أحد يثور كوحش كاسر .. ويزأر زأرة الليث ، فكان يخرس الجميع ويبدأ باستفزازهم قائلا:
ـ مالي أراكم جبنتم؟ أينها ألسنتكم أيها الغوغاء؟ ألا تجيدون شيء آخر غير النباح ؟! أجيبو .. أجيبو أيها الجبناء .
فكان يسكن جميع من في المكان خوفا أن يكتب اسمه في جريدة الأموات..ويتلاشون من المكان واحدا تلو الآخر...
وذات يوم رافق تيمور شقيقته رهف للمنزل الذي تعمل فيه فلمح فتاة شقراء الشعر ، زرقاء العينين معتدلة القد صافية البشرة مشرقة الابتسامة.. تستعدّ لامتطاء الخيل.. فأنشأ يحدق فيها تحديقا شديدا دون أن ينبس بحرف شفة ..
نَظرتُه الفتاة وهو يحدّق فيها بشدة فدنت منه ، وقالت:
- السّلام عليك سيدي ! هل من خدمة ؟!
سكن تيمور مكانه ولم يفتح فيه بشيء ، لا شيء على الاطلاق . فصمتت هنيهة ثم قالت :
- سيدي ! هل أنت بخير؟!
أطرق رأسه خجلاً ، ثم قال:
- أجل ، أنااا.. أنا بخير.. بخير سيدتي. أخبرها ذلك وهمّ وثبا على الهضبة ، لم يصدق أنّه تحدّث الى أجمل فتاة في البلدة فأنشأ يستحضر كلامها العذب الرقيق.. ويهيم في سحر ابتسامتها المُشرقة وكلّه أمل أن تجمعه الصدفة بها تارة أخرى.
وبينما كان تيمور مُستلقيا على العٌشب تُداعب قبعته الغريبة نسمات ربيعية .. سمِع حفيف ثوب يقترب منه شيئاً فشيئاً .. فوثب من مكانه بخفة ورشاقة والتفت وراءه.. فلمحها وهي تدنو منه.. فظنّ أنه يحلم فقط.. ولا شيء مما ينظره حقيقة حتى لمست يده وقالت:
- مالي أراك مندهشاً أيها الرجل الغريب الأطوار؟
ارتجفت يده وهزته رعشة قوية تسربت إلى كل خلايا جسده ، فسحب يده ببطء ، ثم قال :
- ما ذا تفعلين في هذا الخلاء بمفردك سيدتي ؟
ردت عليه وهي تنظر البلدة من السفح :
- لستُ بمفردي ، فأنت معي .. وهذا يكفيني ... صمتت هنيهة ثم قالت :
- أيمكنك أن تُعرّفني باسمك؟
قال :
- اسمي تيمور . وأنت سيدتي ما اسمكِ ؟ وهل أنتِ جديدة في البلدة؟
ابتسمت ابتسامة مشرقة وقالت بصوتها العذب الرقيق:
- اسمي فتون ، وانا من هذه البلدة لكن والدي لا يسمح لي بالخروج من المنزل الاّ بمعية أمي أو الخادمة رهف ! وقالت : انها فتاة طيبة جدا وأحبها كثيرا ، فهي راعية قطيع ولكنها لا تبدو كذلك أبداً.
تجرّع كلمة خادمة دون تعبس وقال:
- رهف هي شقيقتي الصّغرى آنسة فتون!
قالت:
- أعلم ذلك.
أجابها بتعجب:
- تعلمين ذلك ؟! كيف لم أفهم.
قالت وهي تشير له بالجلوس :
- حدث تني عنك رهف كثيراً .. وحمستني لرؤيتك والتّعرف عليك.
قال مندهشاً:
رُؤيتي ؟ أنااا ؟!
أجابت :
- نعم رُأيتك أنت تيمور .
ارتبك تيمور وأحسن جلوسه وقال في سريرته:( لا .. لا يمكنها أن تُحبّني لا .. فأنا شخص دميم قبيح المظهر . وهي فتاة حسناء فاتنة ولن تُفكر بي البتة !).
وثب من مكانه وراح يركض ويركض حتى اختفى بين الأشجار ، وبقيت فتون ساكنة مكانها حائرة في أمرها.
ساءاً وبينما كانت الأم تطهوا الحساء.. انفرد تيمور بشقيقته رهف ، واغدقها بالأسئلة عن فتون.. لكن رهف أبت افشاء أسرار صديقتها لأخيها تيمور .. واكتفت بكلمة واحدة رددتها على مسمعه بضع مرّات:
ابتعد عنها.. ابتعد عنها .. ابتعد عنها تيمور!
لكن تيمور لم يفهم ما تروم اليه كلمات شقيقته وظل يستحضر صوتها العذب في ذاكرته كل حين.. فلم تغمض له عين طوال الليل .. نفس الأمر عند فتون ، أمضت الليل في غرفتها جيئة وذهابا تفكر بحل لمشكلتها .
فات شهر من الزّمن وازداد حب تيمور لفتون.. فبات يذهب خلسة ويجلس بجوار غرفتها.. وينتظرها أن تضحك ليغذي شوقه برنين ابتسامتها التي كانت تطربه وتغنيه عن كل شيء .
ظلّ تيمور كاتما حبّه لها في صمت ولا يُريد منها شيئا .. لا شيء على الاطلاق .. فكلّ ما كان يُريده ويتمناه هو سعادة من يحب .. كان تيمور يحرصها في الذهاب والجيئة ودون أن تشعر وكان سعيدا فخورا بذلك..
وذات يوم من أيام الصيف الملتهبة.. خرج تيمور للهضبة كعادته فوجدها تنتظره هناك وكأنها كانت على يقين بحُضوره.
لمحها وارتعش قلبه سرورا ، فدنا منها وقال:
- فتون ! وما ان أتمم نُطق اسمها حتى امتقع وجهه وقال بشدة:
- ما لي أرى وجهك الحسن عبوسا فتون؟
أطرقت عينيها وقالت:
- أنا أحبّه.
تجرّع ما قالته بقسوة وقال :
- من هو ؟
قالت وهي تستجدي مساعدة تيمور:
- انّه شاب يصغرك بسنتين ، رهف تعرفه وأظن أنه يحبها هي ولا يحبني أنا ..
قال:
- وهل تبادله رهف الشعور نفسه؟
أجابت:
- لم تخبرني ولكني قرأتُ ذلك في عينيها.
تأوه آهة شديدة وقال:
- وكيف أساعدك فتون؟
قالت وهي تبكي:
- ناوله هذا الخطاب .. واطلب منه أن يقرأه.. فأنا أحبه .. ولا قدرة لي على تحمل فقده أو رؤيته مع أخرى .. فهو فتى أحلامي!!
قال تيمور في سريرته:( أحبّك يا وجعي ولا قوة لي ولا حول لجعلك تحبينني فانا دميم.. دميم ولكن سعادتك مهمة مهمة جدا .. أما سعادة شقيقتي فهي أهم من سعادتك .. واذا ثبت أنه يحبها لن أتوانى في جمع شملهما ))
قالت: تيمور.. فيما تُفكر؟
قال في خلده: ( أفكر فيك وهل لي موطنا غيرك أسافر فيه) ثم قال لها :
- أفكر في رهف !
قالت بامتعاض : رهف ! أكرهها .
قال :
وأنا أحبّك !
حدقت في هيئته تحديقا شديدا وقالت بسخرية:
- مزاحك ثقيل جدا اليوم ..
قال:
- ألأني دميم وقبيح المنظر مزاحي ثقيل ؟
قالت:
- لا ، ولكن ...
رمقها بنظرة حادة ومضى ..
في المساء ناول الخطاب للفتى ، فطار الشاب فرحا وعلت محياه بهجة واسعة وحذره تيمور ألا يحاول العبث بمشاعر فتون .. وان سمع أنه أذى مشاعرها او أساء اليها سيهلكه ضرباً.
بعدما أنهى مشواره ، عاد بخيبته على المنزل.. فوجد رهف تستعد للنوم وأبلغها بكل شيء ، فردّت عليه:
- أخي وحبيبي تيمور .. أختك رهف ما من شيء أحب الى قلبها من رعي الغنم والجري وراءهم .. فعندما أصادف راعي غنم يحبني كما أنا وقتئذ سأحبه وأحترمه أيضا.
وقالت: وأنت يا شقيقي ابتعد عنها.. فهي ليست منا ولا نحن منها.