يوم الجمعة الماضي كانت الساعة تشير إلى حوالي السادسة إلا ربع ، وكالعادة كنت جالسا مع أحد الرفقاء نتجاذب أطراف الحديث، وفجأة ركنت أمامنا
سيارة أحد جيراننا القدامى فنزل منها و جلس يشاركنا أطراف الحديث وكان من جملة ماقاله لنا ....هل صحيح أن حادث سيارة وقع في مدينة عين
الدفلى وكان على متنها فلان وفلان؟ فقال له رفيقي سمعنا مثل هذا الكلام ...أنا لم أفهم شيء وقلت لهم هل هم بخير؟ فقال الأول: إبراهيم مات و الأخر
في المستشفى، أنا لم أستوعب الأمر وصرت أستفسر كيف أين متى وقع الحادث ؟ وقلبي يتفطر ألما على إبراهيم الذي كان يعمل في العاصمة وكان
يتأهب لزيارة أهله في قريتنا ...المهم تسارعت الأحداث وكثرت الإشاعات ، ولكن للأسف اختلف الناس في ظروف الحادث واتفقوا على أن إبراهيم
وصديق أخر كان معه توفيا، أما السائق و ابن قريتنا الأخر ففي المستشفى على تضارب الأقوال في حالتهما الصحية...وبت تلك الليلة مهموما مفكرا
حزينا على إبراهيم الذي ستعرفون سبب حزني الكبير لوفاته فيما بعد.... نعم هو لم يكن قريبا مني كثيرا لأنني أكبره فهو لا يتجاوزالرابعة والعشرين من
عمره وأنا صديق لأخيه الأكبر، ولكنني كنت أراه دوما في المسجد قبل أن ينتقل للعمل في العاصمة ، كان جميل المنظر مبتسما دوما طيبا خلوقا محافظا
على الصلاة محبا لكتاب الله يتلوه دوما حتى عندما كان يساعد والده في التجارة كان المصحف في جيبه لايفارقه ..... حل علينا يوم السبت أي قبل
البارحة وأنا كنـت أتوقع أن تكون الجنازة يوم الأحد لطول الإجراءات ، و حوالي الساعة الحادية عشر سمعت أحدهم يقول لقد أعلنوا على دفن جنازة بعد
الظهر، فاضطربت ولكنني هدأت بعد أن رجع وقال : هي لمرأة مسنة كانت مريضة ، وبالفعل حضرت جنازتها وفكري وكلامي كله يدور حول إبراهيم
ومتى يحضروه لأهله ، وماهي إلا لحظات بعد أن فراغنا من دفن المرأة رحمها الله حتى أعلن في مكبر الصوت عن جنازة إبراهيم وأنها بعد العصر، لقد
أحسست بشعور غريب ممتلىء بالحزن والخوف والشوق لرأيته ....عدت الى البيت مسرعا فشربت بعض الماء و غسلت وجهي واتجهت الى بيت
ابراهيم ، كان هناك أقاربه وبعض أصدقائه ، الكل كان يخيم عليه الصمت والحزن، وفجأة التقيت بصديقين لي فجلست معهما وقالا لي أنهما سيغسلان
إبراهيم وإذا أردت الدخول معنا فلابأس ، لاأخفيكم أن فرحتي رغم الألم الشديد كانت لاتوصف لما ؟... لأنني كنت أدعوا الله من زمان أن أحضر تغسيل
ميت حتى أتعظ أولا وينالني الأجر ثانيا وأتعلم ثالثا ....الحمد لله تغسيل ميت و من هو؟ إنه شاب من أهل الصلاح نحسبه والله حسيبه و أعرفه جيدا و
أحبه ....المهم تأخرت الجنازة حتى بعد العصر، ولما وصلت سيارة الاسعاف اجتمع خلق كثير واختلط الحابل بالنابل كان الكل يريد أن يراه ولم
يستطيعوا ادخال النعش الا بصعوبة بالغة جدا، وبعد لحظات نادوا علينا فاضطربت كثيرا ولكنني تشجعت ومررنا وسط خلق كثير، وفي بيت إبراهيم نسوة
كثيرون يتباكون ماقدرنا على المرور إلا بصعوبة بالغة جدا ودخلنا الى غرفة كان فيها النعش وحوله الشباب والأقارب ، وبعد لحظات فتح النعش و كشف
عن وجه ابراهيم وكان مسجى في إزار ابيض، مااقول لكم يا اخوان منظر مبكي جدا ووجه منير جميل تعلوه علامات حسن الخاتمة ، وبدأ الأهل و
الأصحاب بالتوافد لرأيته وسط اندفاع شديد ، وكانت اقوى اللحظات يوم جاؤوا بوالدته وكانت ضعيفة النظر وكان نور الغرفة قليلا فاقتربت منه وضمته
وهي تبكي بشدة ....أعذروني فلن استطيع ان احكي لكم تلك اللحظات لانني سأنفجر بالبكاء فأنا مازلت متاثرا كثيرا ولولا العبرة ماكتبت القصة....المهم
نظرا لضيق الوقت طلبنا منهم التوقف عن النظر وأخرجنا الكثير منهم الا إخوته وبعض أقاربه الشباب طلبنا منهم ان يغلقوا الباب بالإيزار لأنه كان
منزوعا....حملنا ابراهيم ووضعناه على لوح التغسيل وبدأ الاخ المغسل الرئيسي في تجريده من الرداء الأبيض الذي جاء مغطى به وكشف جسمه إلا
مابين السرة والركبة فقد غطيناهما برداء خاص وسحبنا الأول من تحته وبدأنا في غسله كماتعرفون.....المهم سأحكي لكم ماكنت أشاهده وأفكر
به....أول ما وضع إبراهيم على النعش وكشف عن جسده قلت : سبحان الله هذه نهاية البشر مع الدنيا الميت لاحول له ولاقوة بين يدي مغسله ، أين قوته
وأين حيويته ؟ لما الناس متجبرون اليوم؟ ألسنا كلنا سنكون مثل إبراهيم يوما ؟ كنت أستغفرالله و أندم على لحظات عمري التي ضاعت بلا فائدة والله
عبرة عظيمة يا إخواني ....أما إبراهيم فما أحكي لكم وما أترك ، كان كالزهرة المتفتحة وهو ميت ، لا تصدق أنه مات في حادث مرور عنيف ، لا أثار
عليه إلا خدوش طفيفة على وجهه ، كان وجهه منيرا مشرقا وجسمه خفيف الحمل وغسله سهل ، ولما كفناه بالبياض كأنه عريس سيزف ، إزداد جمالا
على جمال والطيب يفوح منه الله أكبر الله أكبر الله أكبر وحملناه و نقلناه إلى المقبرة وصلي عليه ودفن أسأل الله أن يرحمه .
يا إخواني كل الناس كلهم أثنى عليه خيرا وحتى أصدقاؤه في العمل .. كان معروفا بالصلاة وتلاوة القرءان يوم الجمعة...... قال أحد المشرفين عليه
في العمل لأهله : لقد أصبح يوم الحادث ناشرا للمصحف يتلوا القرءان بعدما صلى الفجر، قال لهم: الكل بكى على إبراهيم ، إنه مثابر على العمل ،
ليس كباقي الشباب وقته في الصلاة وتلاوة القرءان لايعرف طريق الحرام ....في قريتنا إبراهيم لم أرى مثله ، الطيب الخلوق المصلي المبتسم لم أره
رافعا صوته أبدا ولا غاضبا ولم أسمع عنه شرا قط من صغره... تقاضى أجر الأشهر التي كان يتربص فيها فما فعل ؟هل فكر في السيارة واللهو
واللعب؟ كلا لقد كان يرمم بيت اهله بماله ومات ولم يتم الترميم ، كان يساعد والده الفقير، قال لأحد جيرانه: أنه يريد الزواج والتعفف ومات عفيفا طاهرا
طيبا ...اللهم ارحمه فإنني إتعظت به وكثير من الشباب ، بعضهم كنت أحكي له عن إبراهيم فمنهم من تأثر ومنهم من نكس رأسه وتذكر الأخرة أحدهم
قال لي أنا لاأصلي أريد أن أصلي فنصحته .
ياإخوان قال النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة: عندما أثنوخيرا على أحدهم وجبت له الجنة أنتم شهداء الله في الأرض،وفي بعض شروح الحديث يلحق
بهم كل أهل الفضل والإيمان ممن شهدوا على الميت بالخير، وكل قريتنا وفيها الكثير من أهل الفضل أثنوا عليه بالخير والصلاح، يا إخواني هناك حديث
حسنه الشيخ الألباني عند أحمد فيه أن من مات يوم الجمعة وقاه الله عذاب القبر، فهنيئا لك يا أخي والله إني أحبك في الله و أسأل الله لقياك في الجنة .
أدعوا له من فضلكم وقصوا قصته للعبرة.
خائف عليه من الثرى غطاه
أو من الحصى حاف أذاه
أكرم عليه بالكفن يامغسل
بالبيت ظل فراشه وغطاؤه
أكرم عليه هذا إبراهيم أخي
واشهد بما أعطت يمناه
هذا الليل والضحى يحبونه
والنجوم والسماء تنعاه
أبكي عليه لا يوم ولا ليله
ولا عام يمشي وأعد قضاه
أبكي عليه من الحزن يادنيا
جل الذي خلق الحزن وسواه
يالدود إذا رأيته ذابلا تجنبه
أنا بنفسي وروحي الغالية فداه
قطعني خذ ماتحب من جسمي
لكن لا تاكل وجهه وكفاه
الكف اللي حمل مصحف ربي
والوجه الذي طالما سجد لمولاه
يارب عساه في النعيم الخالد
وفي جنات عدن داره و سكناه
مقتطفة من قصيدة الشاعر الشمري في رثاء أمه مع تعديلات.