رسالة بالقول
وبعد عطاء أذكر أولى القصتين أولاهما رسالة بالقول.. وهي قصة لشاب عابد من الكوفة أوردها الزبيدي في كتابه
"إتحاف السادة
المتقين " وهاهو نصها:
قال سعيد أبو أحمد العابد رحمه الله: كان عندنا في الكوفة شاب متعبد
لازم المسجد الجامع لا يفارقه، وكان حسن الوجه حسن
السمت، فنظرت إليه امرأة ذات جمال وعقل فشغفت به،
وطال ذلك عليها. فلما كان ذات يوم وقفت له على طريقه وهو يريد
المسجد، فقالت له يافلان اسمع مني كلمة أكلمك بها ثم اعمل ما شئت.
فمضي ولم يكلمها. ثم وقفت له بعد ذلك علي طريقه وهو
يريد منزله فقالت له: يا فتي اسمع مني كلمات أكلمك بهن.
قال: فأطرق مليا وقال لها: هذا موقف تهمة وأنا أكره أن أكون
للتهمة موضعا. فقالت: والله ما وقفت موقفي هذا جهالة مني بأمرك،
ولكن معاذ الله أن يتشوف العباد لمثل هذا مني، والذي حملني
على أن ألقي في هذا الأمر نفسي معرفتي أن القليل من هذا عند الناس كثير،
وأنتم معاشر العباد في مثل هذا القري يضركم أدني
شيء، وجملة ما أكلمك به أن جوارحي مشغولة بك، فالله الله في أمري وأمرك.
قال: فمضي الشاب إلى منزله فأراد أن يصلي فلم
يعقل كيف يصلي، وأخذ قرطاسا وكتب كتابا وخرج من منزله، فإذا المرأة واقفة في موضعها،
فالقي إليها الكتاب ورجع إلى
منزله.
وكان في الكتاب: ((بسم الله الرحمن الرحيم... اعلمي أيتها المرأة أن الله تبارك وتعالى إذا عصاه مسلم ستره،
فإذا عاد العبد في
المعصية ستره، فإذا لبس ملابسها غضب الله عز وجل لنفسه غضبة تضيق منها السموات
والأرض والجبال والشجر والدواب. فمن
يطيق غضبه؟!
فإن كان ما ذكرت باطلا فإني أذكرك يوما تكون السماء كالمهل وتكون الجبال
كالعهن وتجثو الأمم لصولة الجبار العظيم.. وإني
والله قد ضعفت عن إصلاح نفسي فكيف عن غيري. وإن كان ما ذكرت حقا
فإني أدلك علي طبيب يداوي الكلوم الممرضة
والأوجاع المومضة.. ذلك رب العالمين، فاقصديه على صدق المسألة،
فأنا متشاغل عنك بقوله عز وجل: {وأنذرهم يوم الآزفة إذ
القلوب لدي الحناجر كاظمين ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع،
يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور والله يقضي بالحق} .
فأين المهرب من هذه الآية؟!.. والسلام)).
ثم جاءت بعد ذلك بأيام فوقفت على طريقه، فلما رآها من بعيد أراد الرجوع إلى منزله لئلا يراها.
فقالت له: يا فتي لا ترجع فلا
كان الملتقي بعد هذا إلا بين يدي الله عز وجل.
وبكت بكاء كثيرا شديدًا، وقالت: أسأل الله الذي بيده مفاتيح قلبك أن يسهل ما
عسر من أمرك. ثم تبعته فقالت: أمنن علي بموعظة أحملها عنك،
وأوصني بوصية أعمل عليها. فقال لها الفتي: أوصيك بتقوى
الله وحفظ نفسك واذكري قول الله عز وجل
{وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار} قال: فأطرقت فبكت بكاءً شديدًا
أشد من بكائها الأول، ثم ذهبت فلزمت بيتها، وأخذت في العبادة، فلم تزل كذلك حتى ماتت كمدًا.
فكان الفتى يذكرها بعد ذلك
ويبكي رحمة لها.
فانظر كيف عف هذا الفتى الكريم عن فتاة قصدته وتلهفت عليه؟ وانظر كيف خلد الله ذكره
ورفع قدرهلما عف عن الحرام، وقارن
بين هذه الحال وحاله لو أنه أطاع نفسه واتبع هواه ونال لذة عاجلة تنتهي لذتها وتبقى تبعتها.