ما تبقى من مقبرة (مأمن الله)..؟!
[ 17/08/2010 - 07:47 ص ]
محمد أبوعزة
يعرف العالم كله أنه إذا أقدم فتية ألمان أو طليان -من باب الولدنة أو كسر الملل أو الحنين إلى الماضي- على رسم الصليب المعقوف (شعار النازية الهتلرية) على شاهدة بعض قبور اليهود في برلين أو روما.. فإن المنظمات الصهيونية تقيم الدنيا ولا تقعدها.. بحجة عودة اللاسامية إلى البلد الفلاني والقارة العلانية؛ ويتصور العالم بأن الفتيان الذين (شخبطوا) على قبر أو قبرين قاموا بنصب أفران غاز هائلة يجري جر اليهود إليها... وعلى الفور تتصاعد أصوات المنظمات والهيئات الدولية شجبا وتنديدا؛ وتسارع الحكومات الأوروبية إلى تقديم هدايا مالية أو عينية، حتى لو كانت غواصة مثل التي أهدتها حكومة (أنجيلا ميركل) لحكام تل أبيب عقب حرب الفرقان...
أما إذا انتهكت قوات الاحتلال حرمة المقابر العربية في فلسطين المحتلة؛ ودفعت بالجرافات (الأمريكية الصنع) لنبش القبور وبعثرة العظام وتحويلها إلى رماد؛ فلا صوت يرتفع من القطب إلى القطب؛ ولا يد تلوح تعبيرا رمزيا عن شجب الجريمة الصهيونية..
في الثلث الأول من شهر آب الحالي؛ ومع حلول شهر رمضان المبارك؛ أقدمت قوات الاحتلال على اجتياح مقبرة عربية في مدينة القدس، وتم ذلك في ليل بعيدا عن أعين المقادسة والعرب والعالم، ووصل عدد القبور المنبوشة إلى أكثر من مائتي قبر.
وتناقلت وكالات الأنباء الخبر، وقرأ المسؤولون العرب بالتأكيد التقارير التي صدرت من الجهات العربية المقدسية المعنية بشؤون المدينة المحتلة، وارتفعت بعض الأصوات منددة على استحياء بممارسات الاحتلال، ثم صمت المنددون كما صمت غيرهم من المعنيين، وأظن أن الجرافات والبلدزورات الأمريكية سوف تأتي في الأيام القادمة على ما تبقى من المقبرة التاريخية.
والمقبرة التي تعرضت للانتهاك هي مقبرة (مأمن الله) أو (ماملا) بمعنى (ماء الله) أو (بركة الله)، أي هي مقبرة الموتى المستريحين في مأمن الله وأمانه.
وهي تقع بظاهر مدينة القدس القديمة، تبدأ محاذية لـ (باب الساهرة) لتنتهي قبل (باب العمود) الشهير بتسميته التاريخية (بوابة دمشق).
وقد أخذ الشارع المحاذي لهذه المقبرة اسمه من اسمها فهو شارع (مأمن الله) الذي يبدأ بدوره محاذيا (باب الساهرة) إلى (باب العمود)، صاعدا إلى ساحة يتفرع منها كل من (شارع يافا) و(شارع الملك جورج)، لتنتهي الساحة في شارع فرعي يحمل أيضا اسم (مأمن الله)، أو (شارع ماملا) أو (ماميلا) -باللهجة العامية الفلسطينية-.
وتقدر مساحة المقبرة –كما كانت حتى الثلاثينيات من القرن الماضي- بمائتي دونم أي مائتي ألف متر مربع -إذا أضفنا إليها بناية الأوقاف الإسلامية القديمة ومقبرة (الجبالية) التي يفصلها عنها شارع مأمن الله-.
وتاريخية المقبرة تعود إلى أن المئات بل الألوف من المجاهدين والشهداء الذين افتدوا فلسطين والقدس، وحرروها في الفتوح الإسلامية للقدس وفلسطين، كما في العصور الوسيطة –في الحروب التحريرية- يرقدون تحت ثراها، كما يرقد فيها الثوار العرب المسلمون الذين قاوموا الاستعمار البريطاني والغزو الصهيوني منذ عشرينات القرن الماضي.
وفيها تم دفن بعض الصحابة رضوان الله عليهم أمثال الصحابي الجليل (عبادة بن الصامت) رضي الله عنه.
وتحت ثراها جرى مواراة أكثر من سبعين ألفا هم شهداء المجزرة المروعة التي ارتكبها الفرنجة عندما أعادوا احتلال القدس عام 1099م، حيث تم إجبار الأحياء من أبناء القدس على حفر القبور الجماعية لدفنهم.
وتضم المقبرة أيضا أجداث شهداء الفتح الصلاحي للمدينة في خريف عام 1187م إضافة إلى مئات العلماء والفقهاء والأدباء الذين ماتوا في القدس وتم دفنهم في هذه المقبرة، أو جرى حمل جثامينهم من مدن فلسطينية وعربية ليدفنوا في ثراها، أمثال الأمير عيسى بن محمد العكاري الشافعي –مستشار القائد صلاح الدين الأيوبي- الذي توفي في بلدة الخروبة بالقرب من عكا، وحمل جثمانه إلى القدس، والشيخ أحمد بن جمال الدين الديري العبسي الحنفي وغيرهم.
وقد تعرضت مقبرة (مأمن الله) لانتهاكات متكررة، ليس في الأسابيع الأخيرة وحسب وإنما منذ ثمانين سنة وحتى ا لآن، أي منذ ثلاثينيات القرن الماضي، فقد أمر البريطانيون باقتطاع أجزاء من أرض المقبرة أقيمت عليها منشآت مثل فندق بالاس.
واستولى المحتلون الصهاينة على أرض المقبرة عام 1948م أثناء احتلالهم للجزء الغربي من مدينة القدس، وأقرت سلطات الاحتلال قانونا اعتبرت بموجبه جميع الأراضي الوقفية الإسلامية أملاك غائبين يحق لحارسها التصرف بها، ودخلت مقبرة مأمن الله ضمن أملاك (حارس أملاك الغائبين) لدى دائرة (أراضي إسرائيل).
وسنة بعد سنة كانت سلطات الاحتلال تقتطع جزءا من أراضي المقبرة، وتزيل الأضرحة القائمة عليها حتى لم يتبق فيها إلا خمسة بالمائة من القبور التي كانت موجودة، وتم تحويل أجزاء من المقبرة إلى حديقة عامة أطلق عليها (حديقة الاستقلال) –في إشارة إلى ما يسمى (استقلال إسرائيل)- وجرى شق الطرق في بعض أقسامها وهذه الحديقة باتت ملتقى للشاذين اليهود.
وأنشأت وزارة المواصلات الصهيونية موقفا للسيارات على قسم من أرض المقبرة، ومددت وزارة الأشغال شبكات مجاري، وشقت شركة الكهرباء الأرض ونبشت عظام الموتى بحجة تمديد أسلاك كهرباء في باطن الأرض. كما أقيمت مقرات لوزارة التجارة والمحاكم (الإسرائيلية).
ثم تلى ذلك افتتاح مقر ما يسمى (مركز الكرامة الإنساني – متحف التسامح) الصهيوني النابع من العنصرية والتعصب الصهيوني، فوق جزء من أرض المقبرة أي فوق عظام الموتى.
إن سلطات الاحتلال الصهيوني تقوم بتدمير مقبرة (مأمن الله) جزءا بعد جزء في إطار برنامجها لتهويد القدس العربية، و تهويد فلسطين من النهر إلى البحر، وبعثرة عظام ورفات الموتى العرب الراقدين في أسرتهم الأبدية.
وما أكثر الراقدين في عالمنا العربي النائم الذين يقبلون بأقل من الخمسة بالمائة من أرض مقبرة (مأمن الله).
ألم يقولوا منذ أوسلو: دعوا لنا هذا المتاح من الأرض!!؟.
*المدير التنفيذي لمؤسسة فلسطين للثقافة