الفصل الثامن :
في قاعة الانتظار بالمطار كانت هيلاري كرافن تترقب قيام الطائره وإلى جانبها مسز بيكر تصب في اذنيها ثرثرتها التي لا تنتهي وتجيب في شرود على الاسئلة التي توجه إليها .
ولكن سيل الحديث المتدفق مالبث ان اتخذ مجرى اخر فقد التفتت مسز بيكر إلى شابين كانا يجلسان عن كثب ، احدهما امريكي يتألق وجهه دائما بابتسامه عريضه مشرقة ، والآخر فيما يبدو هولندي ان نرويجي السحنه ، واكثر جدا ووقارا من صاحبه .
وقالت مسز بيكر تخاطب الامريكي :
- إني احب ان اعرفك بصديقتي مسز بيترتون يا مستر .. يا مستر ..
- اندرو بيترز .. واصدقائي ينادوني باسم آندي ..
فنهض الاخر ووقف وانحنى باحترام ، وقدم نفسه بقوله :
- توركيل ايريكسون .
وقالت مسز بيكر :
- والآن وقد تعارفنا ، هل نحن جميعا ذاهبون لمراكش؟! هي اول زياره لصديقتي لهذه المدينه .
فقال النرويجي ايريكسون:
- وهي اول زياره لي ايضا.
فقال بيترز :
- وهذا ينطبق علي .
وعلا صوت الميكرفون بكلمات متداخله غير واضحه ، فهموا منها ان موعد قيام طائرتهم قد حان.
وبخلاف هؤلاء الأربعه ، ضمت الطائره شخصين اخرين ، رجلا فرنسيا وراهبه صارمة القسمات جامدة الوجه.
واسندت هيلاري رأسها إلى ظهر المقعد ..
فأطبقت عينيها وران عليها النعاس..
ومالبثت ان استغرقت في النوم ..
صحت هيلاري فجأه من النوم ، ولاحظت ان الطائره تنحدر إلى الأرض مخفضه من سرعتها ، ومالت إلى النافذه تطل من ورائها ، بيد انها لم تر أثرا لأي مطار ..
وتثاءب الفرنسي وقال:
- يبدو اننا سنهبط ، ولكن لماذا ؟!
فقالت هيلاري:
- فعلا فقد اخذت الطائره بالهبوط ..
ودارت الطائره حول نفسها عدة دورات وتوقفت محركاتها وسكن الهدير .. ترى ..هل اصابها خلل ما ؟! ام ان الوقود نفد منها..
ارتطمت العجلات بالأرض ، وجرت فوقها وهي تهتز وتتأرجح فوق المطبات غير المستويه . وجاء الطيار من مقصورته يقول لهم :
- ارجوكم جميعا ان تتفضلوا بالنزول .
وغادروا الطائره تباعا ، واحدا تلو الاخر ..
لم يكن مطارا ذلك الذي هبطوا فيه ، وإنما كانت بقعة منعزله في قلب الصحراء الممتدة بلا حدود .
وقالت هيلاري متسائله في صوت تغشاه الحيره:
- ولكن مالذي جرى ؟ لماذا نزلنا هنا ؟!
قال الطيار مجيبا :
- إننا على كل حال لن نبقى إلا دقائق قليله..
ورمى بصره عبر الافق ناحية الجبال المكسوه بالثلوج ثم قال :
- لقد تأخرت قليلا ولكن هاهي ذي قادمه على البعد.
وقال المسافر الفرنسي:
- قد فهمت أنه ستكون في انتظارنا سيارة ميكروباص لكي نكمل الرحلة فيها ..
وعادت هيلاري تتساءل :
- هل اصاب المحرك عطب؟
وابتسم بيترز ابتسامته العريضه المألوفه ، والتي تشيع في كل ثنايا وجهه وقال:
- كلا ان المحرك سليم ، ولكن كان لابد ان يدبروا شيئا من هذا القبيل ..
واخيرا جاءت السياره الميكروباص ، يقودها سائق من البربر، في سرعة خاطفه اضطر معها أن يضغط فراملها بكل قوه حتى توقفت بجوارهم في المكان المناسب ..
ولدهشة هيلاري سمعت مسز بيكر تصدر امرا بقولها:
- هيا اسرعوا فلا نريد ان نتأخر اكثر من هذا ..
ومضى السائق إلى الجزء الخلفي من السيارة وفتح الباب فانكشف عن صندوق ضخم يشغل المؤخره..
وتعاون بيترز وايريكسون مع السائق والطيار على إنزال الصندوق إلى الارض في جهد ومشقه إذ بدا ثقيلا مرهقا ..
فأقبل الفرنسي على الصندوق يفتح ويرفع غطاءه فاقتربت منه هيلاري محاولة النظر لما بداخله ..
فأخذت مسز بيكر بذراعها تنحيها جانبا وهي تقول:
- لو اني مكانك لما خاولت النظر إلى مافي الصندوق .
- ولم لا ؟ مالذي في الصندوق؟
تألقت ابتسامة بيترز العريضه وقال :
- إني اعرف مافيه .. إن فيه مجموعه من الجثث ..
رددت هيلاري في ذهول :
- جثث ؟
- نعم جثث ... جثث اشتريت بطريقه قانونيه سليمه لإجراء بحوث طبيه عليها ، والذي اشتراها هو الدكتور بارون.
واشار إلى الرجل الفرنسي ، ثم استطرد ..
- هنا تنتهي رحلتنا يا مسز بيترتون .. أعني المرحلة الاولى من الرحله ، ستوضع الجثث في الطائره ثم تشعل فيها النيران ، وسوف نراها على البعد ونحن نستقل الميكروباص شعله متأججه .
وغمغمت هيلاري :
- ولكن لماذا؟ لماذا ؟!
وكان الدكتور بارون هو الذي اجاب.. فقال :
- ولكنك تعرفين طبعا ، إلى اي مكان سوف نذهب ، إننا ذاهبون للمصير المجهول .
الفصل التاسع:
- والآن ارجو ان تستقلوا الميكروباص ، وأن تسرعوا فقد تأخرنا على الموعد المحدد ..
وصعدوا إلى الميكروباص والتفتت هيلاري إلى السيدة الامريكيه وقد بدأت تدرك حقيقة الوضع وسألتها :
- إذن فأنت مايسمونه بضابطة الاتصال؟
فأجابتها مسز بيكر :
- تماما .. إنني ضابطة الاتصال التي تتولى العلاقات العامه ، فليس ما يثير الشك رؤية سيده امريكيه تنتقل بين مختلف البلاد وتتحدث إلى هذا وذاك ، فتلك طبيعة الامريكيين..
واستطردت مسز بيكر :
- وسوف يكون خبرا مثيرا ان يقرأ الناس في الصحف ان طائره سقطت بمسز بيترتون للمرة الثانيه ، وإن كانت هذه المرة قد احترقت مع سائر الركاب ، ولم يعثر في الحطام إلا على جثث شوهتها النيران واختفت معالمها المميزه ..
واطلقت مسز بيكر ضحكة مرحه ، فأدركت هيلاري مدى دهاء الخطه المدبره وبراعتها .. فقالت :
- وهؤلاء الاخرون ؟! ما شأنهم ؟!
فردت مسز بيكر :
- الدكتور بارون من اشهر علماء الجراثيم ، ومستر ايريكسون من افذاذ علماء الطبيعه ، اما مستر بيترز فباحث كيماوي شهير. ومس فيدهايم ليست راهبه طبعا ، وإنما هي اخصائيه في الغدد . اما انا فلا انتمي إلى البيئة العلميه وإنما مجرد ضابطة اتصال..
- ومس هيذرنجتون ، ماشأنها ؟!
- شأنها فيما اعتقد هو مراقبتك وتتبع خطواتك مذ حللت بكازابلانكا وكذلك التأكد من ان احدا لا يقتفي اثرك ، وإن كنت في حقيقة الأمر لا اعرف شيئا عنها ، فربما كانت غير منتميه إلينا ..
وهتفت مسز بيكر:
- آه .. انظري .. ها هي ذي تشتعل ..
ومالت هيلاري إلى النافذه تنظر منها فرأت على البعد شعله تتأجج من النيران وسمعت دوي انفجار خافت ..
ورمى بيترز برأسه إلى الوراء وقال وهو يضحك :
- غدا تنشر الصحف بالخط العريض : ستة اشخاص يلقون حتفهم عندما هوت بهم الطائره وهم في طريقهم إلى مراكش ! ولن يخطر لهم ببال أبدا أن هؤلاء السته كانوا من قبل جثثا هامده شبعت موتا ..
همست هيلاري:
- هذا مخيف .. مخيف جدا..
- اتعنين الانطلاق للمصير المجهول؟!
كان بيترز هو الذي تكلم ، وكان الان يبدو جادا ، تبددت من سماته إمارات المرح التي كانت تغشاه..
واستطرد :
- هذا صحيح ولكنه الطريق الوحيد ، إننا الآن نطرح الماضي وراءنا ونخطو إلى المستقبل ..
وأضاء وجهه بإشراقة من الحماس والانفعال وقال:
- الآن نهجر خلفنا الأشرار والمجانين .. الحكومات الفاسده وتجار الحروب .. سنذهب إلى دنيا جديده ، دنيا العلم ، بعيدين عن الحثالة والقاذورات ..
زفرت هيلاري نفسا عميقا وقالت عن عمد :
- قولك هذا شبيه بما كان يردده زوجي دائما ..
فقال:
- زوجك؟! اتعنين توماس بيترتون؟! إنني لم اتعرف عليه ابدا في الولايات المتحده ، وإن كانت بعض المؤتمرات قد ضمتنا اكثر من مره .. إن جهاز تفتيت الذرة الذي وفق إليه من اعظم الاختراعات في العصر الحديث ، وإني لأجله واقدره من اجل هذا ,, إنه كان يعمل مساعدا لبروفسور مانهايم ، اليس كذلك ؟
فأومأت هيلاري إيجابا .. فاستطرد بيترز:
- قد قيل لي انه تزوج ابنة مانهايم ، ولكنك طبعا لست ..
فقاطعته :
- إني زوجته الثانيه فقد ماتت الزا في امريكا ..
- اه .. اه .. إنني اذكر هذا الان .. وبعد وفاتها سافر بيترتون لإنجلترا ليعمل هناك .. ثم اذهل العالم بأن اختفى فجأه ..
وضحك بيترز واستطرد :
- وتلاشى فجأة وهو يحضر احد المؤتمرات في باريس وابتلعه المجهول..
وكان هذا هو الذي يثير الفزع في قلب هيلاري .. إن المنظمه تجيد تدبير الخطط ..
جميع تدابير الامن التي اتخذت لحمايتها .. جميع التدابير التي وضعت لتتبع خطواتها .. كل هذا قد انهار وذهب هباء .. فلا احد الآن يعرف مكانها .. غدا سيقال ان مسز بيترتون لقيت حتفها عندما سقطت بها الطائره للمرة الثانيه ، ولن يخطر ببال احد انها الان في قلب الصحراء منطلقة إلى المصير المجهول حيث سبقها إليه توماس بيترتون من قبل ... فقد اختفت اثارها ولم يعد باقيا إلا طائره محترقه ورماد ست من الجثث ..
ترى هل يستطيع جيسوب ان يعرف انها هي هيلاري كرافن لا تزال على قيد الحياه وأن جثتها ليست بين الجثث المحترقه؟! اغلب الظن انه لن يعرف ابدا فقد دبرت الخدعه بدهاء منقطع النظير ..
إنهم الآن ستة اشخاص في سيارة ميكروباص ... في قلب الصحراء فكيف يمكن ان تختفي آثارها بمثل هذه السهوله!!!
ألا يحتمل ان يرى السيارة اي انسان ؟ هل قضي عليهم بأن تنقطع صلتهم إلى الأبد بعالم البشر؟! إن هذا يبدو مستحيلا .. رغم براعة الخطه ودهائها ..
وهمست هيلاري:
- لكن الى اين نحن ذاهبون ؟!
فردت مسز بيكر :
- مهلا ولا تتعجلي ..سوف تعرفين كل شيء في الوقت المناسب ..
وتابعت السياره طريقها بلا هوادة ، وهيلاري لائذه بالصمت تضرب في متاهات الخيال والوساوس ..
ومال رأسها فوق صدرها .. ومالبثت ان اخذتها غفوه من النوم ..
*****
في رفق لمس بيترز ذراعها وهو يقول :
- استيقظي إذ يبدو اننا بلغنا مكانا ما ..
وهبطوا جميعا من السياره وكان الليل قد ارخى سدوله واشتد الظلام.. وعلى ضوء احد المشاعل ساروا إلى بيت ريفي تحف به الاشجار وعند بابه امرأتان من البربر تتسامران بالضحك ..
واقتيدت السيدات الثلاث ، هيلاري ومسز بيكر والراهبه إلى غرفه فيها ثلاث مراتب وبعض الاغطيه ولا شيء غير ذلك من الأثاث ..
وقالت مسز بيكر :
- وددت لو اني الآن في فندق قصر الجمال انعم بالراحه على فراش وثير فقد حطمت السياره اضلعي ..
فردت عليها الراهبه في صوت جاف به مسحه من الاسترجال:
- الراحه نقمة تخلق الضعف والمذلة والهوان ..
فتطلعت إليها مسز بيكر تتأملها ثم قالت:
- إني استطيع ان اتخيلك مس فيدلهايم جاثيه على الارض فوق الحصى والاحجار تبتهلين وتصلين دون ان يداخلك التعب او الانهاك ..
ثم التفتت إلى مسز بيترتون قائله :
- بعد ان نتعشى سآتيك بقرص من الاسبرين فتستغرقين في النوم بعد مشقة هذه الرحلة المضنيه .
وجيء لهن بالطعام والشاي المعطر بالنعناع وما ان اتين عليه متعجلات حتى هرعن إلى مراقدهن وغرقن في نوم عميق ..
وقالت مسز بيكر لصاحبتيها في الصباح ان الرحلة لن تعاود مسيرتها إلا عند هبوط المساء. وجاءت إليهن خادمتان بثياب وطنيه فقالت مسز بيكر :
- سنردي الزي الوطني المراكشي منذ هذه اللحظه ونخلع الثياب الاوروبيه ..
فأمضت النساء الثلاث نهارهن بين الفراش وبين الجلوس في سطح البيت يشرفن على مشاهدة الطبيعه التي تدور حولهن وعلى قريه ريفيه تظهر لهن من البعيد ..
واخيرا حانت ساعة الرحيل وقد توارت الشمس وراء الافق ... وفي هذه المره لم يستقلوا السياره الميكروباص المقفله وإنما انحشروا في سياره سياحيه مكشوفه وكانت النساء يرتدين الزي الوطني المراكشي وعلى وجوههن نقاب مسدل اما الرجال فلبسوا الجلاليب والعباءات الفضفاضه..
وتتابعت ساعات الليل والسياره تمر بهم عبر الصحراء الممتده وهم صامتون يداعب النوم اجفانهم والمقاعد غير المريحه تقض اجسادهم المرهقه ..
وقال اندي وقد تبدد الليل وبزغت الشمس وتوقفت بهم السياره فنزلوا منها لتناول طعام الفطور :
- كيف حالك يامسز بيترتون؟ فقد كانت ليله مضنيه؟
- طول الليل والأحلام المزعجه تراودني .. أين نحن الان ياترى؟!
- من يدري ؟ فهي مجرد صحراء لا اول لها ولا اخر وهذا ما يلائم الخطه المدبره حتى لا نخلف وراءنا اثرا يهتدى به الينا ..
فأطلق ضحكته المرحه المعهوده واستطرد :
- اولا طائره تنفجر ويحترق ركابها جميعا .. وثانيا سياره ميكروباص عليها لوحه تشير إلى انها تابعه لبعثه هندسيه تمسح الارض.. وفي اليوم التالي سياره سياحيه تستقلها جماعه من البربر وهو شأن شائع في مثل هذه المناطق .. اما المرحله التاليه من الرحله فهي مالا علم لنا به ..
فتساءلت هيلاري:
- لكن ماهي وجهتنا؟!
فهز اندي كتفيه ورد :
- لا جدوى من السؤال فتلك دائما اسئله لا جواب عليها ..
------------------------------------
استمرت الرحلة الغامضه اياما اخرى . كانت هيلاري تعيش معهم وتؤاكلهم ، وتحدثهم وتخاطبهم، ومع ذلك فقد ظلت طوال الوقت تحس انها بعيده عنهم ، لا تشاركهم آراءهم ومعتقداتهم كأنما بينهم وبينها سد هائل.
فهذا هو الدكتور بارون لا يتمنى إلا شيئا واحدا ، هو ان يحصل على النقود فيغرق نفسه في معمله بين اجهزته وانابيب الاختبار. وكان من حين لآخر يحدثها عن قوة التدمير المروعه التي يمكن ان تحتوي عليها انبوبه في حجم قبضة اليد.
وسألته :
- ولكن ايمكنك حقا استعمالها ؟
فنظر إليها بانفعال جنوني وقال:
- ولم لا ؟ مادام الامر ضروريا ..
وسرى الرعب بأوصالها ، وهز اعماقها هزا عنيفا وداخلها شعور بالخوف منه .. ومن الاخرين .
هاهو ذا رجل يتحدث بمنتهى الاستخفاف عن إبادة ملايين البشر دون ان تهتز شعرة في رأسه ..
وكذلك كانت هيلاري تكره تلك السيده المتعجرفه المستعليه هيلدا نيدهايم .. ولكنها كانت تميل إلى اندي بيترز وإن افزعها منه ذلك الوميض المتألق الذي كان يغشى عينيه من حين لآخر ..
قالت له يوما:
- إنك لا تريد خلق دنيا جديدة لأن الذي يسعدك هو تدمير هذه الدنيا التي تعيش فيها.
قال مستنكرا :
- ماذا تقولين يا اوليف؟!
- إن الأمر واضح ولست مخطئه . إني اكاد المس الحقد الذي يتأجج به صدرك. الحقد ، الكراهيه، الرغبه في التدمير ، هذا هو مايجيش به صدرك .
اما نظرة هيلاري لايريكسون كانت مختلفه .. فهو رجل حالم .. رجل مثالي متعلق بالأوهام.
كان دائما يردد:
- نحن معشر العلماء يجب ان نسود العالم .. نحن الذين يجب ان نحكم ونسيطر .. مقاعد الحكم لم تخلق إلا للعباقره.
وهكذا كانوا جماعه واحده، يضمهم مكان واحد ، ولكن معتقداتهم ونوازعهم كانت متنافره متناقضه ، بيد انه كان يجمعهم هدف مشترك/ ذلك انهم كانوا جميعا يتطلعون إلى وهم وسراب.
وفي نهاية اليوم الثالث هبطوا قريه صغيره، ونزلوا في خان وطني متواضع وطلبت إليهم مسز بيكر ان يخلعوا الزي المراكشي وان يعودوا إلى ثيابهم الأوروبيه.
وقالت لهم :
- ارجو ان تسرعوا لأن الطائره تنتظرنا.
فقالت هيلاري باستغراب:
- طائره؟!
- نعم .. فحسبنا هذه السياره التي قضت منا الاضلع.
__________________
واستقلوا الطائره وكان القائد فرنسي الجنسيه بارعا بمهنته. وطاروا بضع ساعات فمرت بهم الطائره بأمان من وسط الجبال الشاهقه.
وبعد ظهر اليوم التالي اخذت الطائره تهبط إلى الأرض حتى استقرت عجلاتها على سهل تحف به الجبار في مطار بدائي يقوم عند طرفه القصي بناء ابيض.
فمشت بهم مسز بيكر إلى البناء وهي تقول آمره:
- عليكم ان تغتسلوا وتتناولوا القهوة قبل ان تستقلوا السيارات .
واغتسلوا ومشطوا شعورهم وجاءهم الخدم العرب بالقهوة والسندويشات وتأهبوا لمواصلة السفر .
فقالت لهم مسز بيكر وفي تنظر في ساعتها:
- لقد ان لي ان اترككم أيها الاصحاب فتلك هي المرحلة الأخيره من الرحله .
فسألتها هيلاري:
- اراجعة انت إلى مراكش؟!
- وكيف ارجع اليها والمفروض اني ميته حرقا في الطائرة التي سقطت؟! إن ورائي مهام اخرى في بلاد ثانيه.
- ولكن هبي ان احدا القتى بك صدفة ممن عرفوك في مراكش؟
- وهل صعب علي ان اتخلص من هذا المأزق؟ سأزعم بأن لي شقيقة تشبهني تمام الشبه وهي التي احترقت في الطائره. وطبعا سيكون لدي جواز سفر باسم اخر وسأغير لون شعري ونبرات صوتي.
فازدادت هيلاري إعجابا بالخطه المدبره . وودعت مسز بيكر باقي رفاق السهر ، فاستقلت الطائره ، ومالبثت ان علت في الجو وتوارت وراء الافق.
*****
جاءهم احد الخدم العرب قائلا:
- السيارات جاهزة ايها الساده.
كانت بانتظارهم سيارتان كاديلاك يقودهما سائقان يرتديان الزي الرسمي فاتخذت هيلاري جلستها في المقعد الامامي بجانب السائق الفرنسي ، وكانت من حين لآخر تحدثه حديثا عابرا عن المشاهد التي تمر بها السياره .
وسألته اخيرا:
- ترى هل تطول الرحله ؟!
- المسافة من المطار للمستشفى تستغرق حوالى ساعتين ياسيدتي .
طنت الكلمات في اذنيها ، ولأول مره فطنت إلى ان هيلدا نيدهايم كانت الآن تلبس زي الممرضات.
وعادت تسأل السائق الفرنسي:
- حدثني قليلا عن المستشفى.
- إنها من اروع المستشفيات في العالم ومزوده بأحدث الأجهزه العلميه وكثير من كبار الأطباء يزورونها من حين لآخر ثم يرحلون وهم يثنون عليها اعظم الثناء. إن الأبحاث التي تجري فيها لخير الإنسانية جمعاء.
فقالت هيلاري تجاريه :
- طبعا .. هذا لاشك فيه.
- فيما مضى كان هؤلاء التعساء يرسلون إلى جزيره مهجوره فيقضون ماتبقى من حياتهم حتى يدركهم الموت . اما الآن فهم يعالجون هنا بالدواء الذي اكتشفه الدكتور كولوني ، وقد ثبت نجاحه في معظم الحالات حتى الحالات المستعصيه المزمنه.
عجبت هيلاري لحديث السائق إذ لم تكن تدري من هؤلاء الذين نعتهم بالتعساء ولا أي داء يعانون .
توقفت بهم السياره امام المستشفى، فاستقبلهم زنجي يرتدي ثيابا بيضاء فتح لهم البوابة ودعاهم للدخول .
ورأت هيلاري نفسها في فناء كبير حجز معظمه بسور من القضبان والأسلاك ووراء السور كان جماعة من الناس يتمشون رائحين غادين.
فاستداروا ينظرون للقادمين الجدد ، وعندها هتفت هيلاري وهي تشهق في رعب :
- يا إلهي .. إنهم مصابون بالجذام !!!!!!!!!!!!!!!!!
ولفرط فزعها طغت على اوصالها رعده كادت معها ان تتهاوى على الارض مغشيا عليها
------------------------------
اغلقت البوابه وراء القادمين الجدد مرسله رنينا حادا ، بدا في هذا السكون الشامل كأنه صادر من مطارق تدق السندان دقا عنيفا ,, وخيل إلى هيلاري ان رنين البوابه كان يحاكي صوتا يقول: انتم يامن تدخلون اطرحوا الامل فأنتم لاتعودون ..
نعم تلك هي النهايه .. النهايه الحقيقيه نهايه بلا رجعه .. إنها الآن وحيده وسط الاعداء ولن تمضي دقائق معدوده حتى تواجه باكتشاف امرها وانفضاح سرها ..
دار بخلدها : الآن انطبقت علي المصيده ، ولم يعد أمامي سبيل إلى الفرار .. سوف لا يقع عليها بصر توماس بيترتون حتى ينطلق صارخا : ولكن هذه ليست زوجتي ..
وتنتهبها العيون من كل جانب .. بنظرات حانقه شزراء .. جاسوسه في وسطهم ؟ وخطر لها ان تعكس الموقف: فبدلا من ان يصرخ بيترتون بأن هذه ليست زوجتي ، ستبادره هي بمجرد ان يقع بصرها عليه : كلا ليس هو زوجي ..
وإذا استطاعت ان تجعل الحماس يدب في صوتها والرعب يطل من عينيها فسوف تنجح في إثارة الشكوك ،، وسوف يرتابون ويتساءلون : ترى هل بيترتون هو حقا بيترتون ام عالم اخر انتحل شخصيته واندس بينهم ؟ هل هو الجاسوس اما هي فالزوجة الحقيقيه؟!
ولكن اليس معنى هذا ان يصبح بيترتون هو الضحيه ؟! وأن يقضى عليه بالهلاك ؟!
إن ضميرها لم يبكتها ولن تندم ابدا فبيترتون خائن انحاز إليهم وجاء اليهم ليبيعهم اسرار بلاده ، فهو اهل لأن يموت دون شفقه او رحمه ..
انتزعها من خواطرها اليائسه رجل عملاق الجسم وسيم الوجه ، اقبل على الجماعه يستقبلهم ويحييهم واحدا تلو الاخر ..
وحين مد يده يصافح هيلاري رسم على شفتيه ابتسامه باهته مصطنعه وقال لها :
- لا شك انك متلهفه إلى لقائه ..
اشتد اضطرابها واخذتها غشيه عابره من الدوار وشردت عيناها بنظره تجردت من التعبير .
بادر اندرو بيترز بلمس ذراعها في رفق ، وسندها وهو يقول للمضيف الذي جاء يرحب بهم :
- لعلك لا تعلم ان الطائره سقطت بالسيده بيترتون وأنها اصيبت بارتجاج في المخ ، وقد زادتها هذه الرحلة المضنيه المتواصله ارهاقا فوق ارهاق . إنها الآن يجب ان تستريح ساعة او ساعتين في غرفه معتمه .
استشفت هيلاري من صوته ومن ذراعه التي تسندها بادرة من الرحمه والإشفاق ولكنها استجمعت شجاعتها ورفعت رأسها وقالت :
- كلا كلا .. يجب ان اقابل توم .. إذهبوا بي إليه في الحال .. اريد ان اراه حالا ..
قال الرجل العملاق الوسيم :
- بالتأكيد يا سيدة بيترتون .. إني استطيع ان ادرك حقيقة مشاعرك ..
أشار إلى امرأه تقف على قيد خطوات وهو يقول :
- دعوني اقدم لك الآنسه جينسون ..
وقدم إليها القادمين الجدد كل واحد بدوره .. ثم قال :
- ستصحبكم الآنسه جينسون إلى مكتب التسجيل وتقدم إليكم شرابا ريثما اصطحب السيدة بيترتون إلى زوجها وسأعود إليكم بعد برهه وجيزه ..
استدار منصرفا وفي اعقابه هيلاري كرافن وحانت منها لفته إلى الوراء ورأت بيترز يتابعها ببصره وخيل إليها انه يهم في تردد ان يلحق بها ثم آثر البقاء ..
وقال لها الرجل وهو يمشي بها في دهاليز طويله ملتويه :
- إنني ادعى بول فان هايديم .
وقالت له هيلاري :
- إنه لأمر فظيع .. مرعب .. اعني هؤلاء المجذومين ..
فقال :
- إنك لن تلبثي ان تألفي رؤيتهم ..
توقف فجأه عند احد الابواب وقرع الباب ، ثم تريث برهه قبل ان يفتحه ..
وقال :
- بيترتون .. هاهي ذي هنا اخيرا .. زوجتك.
وتنحى عن الباب قليلا ليفسح لها مكانا للدخول ..
دخلت هيلاري إلى الغرفه .. الآن لا سبيل إلى التراجع ..
لا سبيل إلى التردد .. تقدمت إلى الداخل .. تقدمت إلى الأمام .. إلى القدر المحتوم ..
الفصل الثاني عشر :
كانت المرأه التي ترأس مكتب التسجيل شبيهه بالسجانات في صرامة وجهها وجمود قسماتها .. ورحبت بالدكتور بيترتون في كلمات وجيزه مقتضبه.. وقالت له :
- إذن .. فقد جاءت السيدة بيترتون اخيرا
كان يبدو من لكنتها انها سويسريه.
اشارت إلى هيلاري تدعوها إلى الجلوس وفتحت درجا تناولت منه عدة استمارات نشرتها فوق المكتب .. ومضت تدون بعض البيانات.
وقال بيترتون :
- إني ذاهب إلى عملي يا اوليف فالحقي بي عندما تفرغين
انصرف بيترتون وأوصد الباب وراءه ، والتفتت رئيسة مكتب التسجيل إلى هيلاري وقالت :
- والآن اسمك بالكامل والسن ومحل الميلاد واسماء الابوين .. والامراض الخطيره ، وهواياتك المختلفه والاعمال التي التحقت بها ومؤهلاتك العلميه والاطعمه التي تفضلينها وهناك اسئله اخرى سوف اوجهها إليك فيما بعد ..
ابتسمت هيلاري في اعياء واخذت تجيب على الاسئله والمرأة ماضيه في تدوينها بالاستمارات التي امامها ..
واخذت الاسئله تتوالى تباعا جتى لكأنها سيل جارف لا ينتهي ..
واخيرا رفعت المرأة رأسها وقالت :
- هذا هو ما يختص به هذا المكتب والآن سأبعث بك إلى الدكتوره شوارتز لتفحصك من الناحية الطبيه.
وتساءلت هيلاري:
- وهل هذا ضروري ؟!
- ضروري جدا يا سيدة بيترتون .. فإننا هنا نؤمن بالكمال ونحب ان نثبت كل شيء في السجلات ..
وقامت الدكتوره شوارتز بفحص هيلاري فحصا دقيقا استغرق فتره قصيره ثم قالت لها :
- والآن عليك الذهاب إلى الدكتور روبيك.
- ومن يكون الكتور روبيك هذا؟
- طبيب نفسي ..
- ولكني لست بحاجه إلى طبيب نفسي ..
- لا داعي للانزعاج سيده بيترتون .. إن ما سيدور بينكما لا يعدو اختبارا للذكاء وتحديد معالم شخصيتك..
كان الدكتور روبيك سويسريا.. في الاربعين من العمر .. ورحب بهيلاري في لطف ودماثه .. وتصفح البطاقه التي بعثت بها إليه الدكتوره شوارتز ثم قال:
- يسعدني ان اعرف ان صحتك جيده ياسيدة بيترتون ..
ثم اردف ..
- لقد بلغني انك تعرضت لحادث سقوط طائره منذ فتره وجيزه إليس كذلك؟!
- بلى وقد امضيت خمسة ايام في مستشفى كازابلانكا..
- ولكن خمسة ايام لا تكفي إطلاقا .. كان يجب ان يستبقوك اكثر من هذا..
- كنت تواقه إلى مغادرة المستشفى لأواصل رحلتي ..
- هذا تصرف غير سليم ، فالإصابه بارتجاج المخ تحتاج إلى فتره طويله من الراحه والاستجمام.. إنك قد تترائين سليمه في البدايه ولكن هناك احتمالا كبيرا لآثار جانبيه خطيره .. إن جهازك العصبي فيما ارى مضطرب إلى حد ما ، وهذا راجع دون شك إلى مشقة الرحله .. وإلى الارتجاج في الوقت ذاته ..