بدا الغيث يلامس وجه الأرض الملوح بشمس الصيف الحارقة، وتسرب إلى أنوفنا عطر أوراق الكاليتوس المبخر من أشجار باسقة تتحدى صفائح الأسمنت المنسوجة على أطلال منازل قديمة كانت هنا، ترسم للمكان زواياه وتسدل ظلالها على ماضيها...
ذلك الحوش يجذبني نحو الزمن الجميل، وتشدني إليه أوراق الكاليتوس الغارقة فيها قدماي، .. أمسكت بحفنة منها، وارتشفت عطر الذكرى .
...هنا لعبت، ونقشنا أول الحروف التي تعلمناها على جذوع الشجر، خربشنا الحيطان، وملأنا الشارع ضجيجاً وعبثاً ...وفي ذاك الركن الخشبي لدكان خالي عمر، أتت وسيلة ببصل وفاطمة بماء وملح. أنا كان يجب أن أتحايل على "الجانية" وأقسم لها أن جدتي من طلبت حبة طماطم... طبخنا في علبة صفيح وبدا الأكل الملئ بالغبار والرماد لذيذاً جداً.. ولحد اليوم لا يعرفون أن علبة الصفيح تلك، أتيت لهم بها من صندوق القمامة..!
وأنا أسافر إليهم هزتني أمي لندخل بيت الجيران. مازالوا يذكرونني. يحبونني منذ عشر سنوات ! .
تغيرت حياة كل واحد مناَّ. هناك من تزوج، وهناك من ترملت. من مات ومن هاجر. ولكنت ظل لكل واحد مناَّ مكان في قلب الآخر...
ونحن نرتشف القهوة بالمسمن بالعسل، نجتر مغامرات الماضي. همت في واقعي. كل تلك الصداقات وكل ما أحسبها روابط متينة بالأصدقاء في العمل والمدرسة، لن تتربع في قلبي بقوة وبراءة أصدقاء طفولتي... مع أننا لم نعرف بعض ولم ندرك ما يربطنا، ولكن ظلَّ الحب يجمعنا، لم يزعزعه الفراق ولا الرحيل...
تسليتُ لأول مرة بالاسترسال في الحديث. كان عندي الكثير لأحكي عنه، كما أن روحي أحبت المكان، فتنفست من أعماقي، وارتحت.. ضحكنا حتى دمعت عيوننا...
تذكرنا قصة الشيخ زرّوق الذي لم تخنه شيخوخته لما طاردنا إلى خارج الحيّ، حين دخل الدكان وسمعني أهمس لصاحبتي :
- " إنَّ زوجته أصغر منه بكثير..." .
ثم حكت لنا الخالة يمينة عن قصته العجيبة تلك. حينما استعان بالأرواح الشريرة كما أشيع، ليأتي بها من بيت زوجها ليلا حافية القدمين، بمجرد ما مرت عليه في صبيحة اليوم نفسه...
كنت أتأمل في كل واحدة منهنَّ أرى إذا ما تغير لون شعرها أو ظهرت تجعيدة ما على وجهها. شكل الأولاد الذين خلقوا. كنت أستطيع أن أرقص وسطهم. أن أسكب فنجاني على الصينية وأضحك بأعلى صوت. أن أذهب إلى الحمام دون استئذان. لم تكن لجلستنا طقوس تحكمها، ولا في قلوبهم ضغينة ما... شعرت بالحنين لأهل حارتي، وتبا للذي أخذني منهم. كل ما حققته لا يضاهي ذرة سعادة وسط هؤلاء البسطاء الناجين من بطش المدينة، كالخرائد تشع نفوسهم عذرية ونقاء.
استعدت كذا حكاية من مذكرات الماضي. تنجذب عيناي بين اللحظة والأخرى نحو السور المقابل الذي يفصلنا عن منزل الطفولة، حيث ارتشفت الحنان والحب إلى غاية يوم وفاتها...
تعلقت عيناي بعيني خالتي فاطمة وهي بقهقهاتها تلج بالحديث لأمي، وسافرت بهما لذكرى ذاك اليوم حيث عانقتني بشدة أمام مدخل بيتنا. كانت تصرخ في أذني الصغيرة :
" ..أمك ماتت، خلاص ماتت .." .-
" ما معنى ماتت ؟؟ ..." .-
كان ذاك اليوم الذي عرفت فيه أن جدتي لم تكن أمي...
ولن تمسح عن ناظري صورة أخوالي وهم يحملون نعشها على أكتافهم، فارتميت على أرجلهم أتوسل إليهم أن لا يأخدوها منيِّ...
منذ ذاك الحين وأنا يتيمة، لم أحس بالسعادة قط وسط أبي وأمي.. لم يمر يوم إلا وتشاجرا فيه أو أنّباني ..
- "مزيداً من القهوة ؟ "..
عدت إلى دائرة مجلسنا وأنا أتحسس إذا ما كشفت دمعة عن استيقاظ الجرح في أعماقي الذي أحسبه لم يندمل ولو بيع المنزل الكبير، إلاَّ أنه سيظل في ذاكرتي بزواياه وغرفه وبلاطه القرميديِّ، تتوسطه شجرة الليمون حيث كان جدي يرتل القرآن. فيما الأرض تكسوها أسراب الحمام التي تحلق غادية عائدة كلما خرجنا إلى الحوش نتناول الشاي في الضحى...
كم تسليت لما أمطر نفسي بفتات الخبز وهي تهاجمني فتطاردني جدتي بوابل من السبِّ. ورغم ذلك أعيد الكرة ما إن أعرف أنها منشغلة بالداخل ثم أنظف المكان بعدما أتأكد أن أعصابها هذه المرة لن تدفعها لتأنيبي فحسب ...
- " أما زال الحمام يعود إلى منزلنا القديم ..؟ "
تفاجأ الجميع بسؤالي الخارج عن مواضيع حديثهم ...
- " ... قليلاً.. من يتذكر المكان .." .
- " وماذا عن شجرة الليمون ...؟ " .
- " ياه ! لقد ماتت منذ عشر سنوات .." .
تملكتني رغبة جامحة في أن أكسر الباب الموصد بالحديد، أو أقفز من على الأسوار يشدني الشوق لملامسة حيطان البيت المهشمة أو الدوران في غرفه. وغرفتي... كانت لي ولجدتي.. لكن المنزل لم يعد لنا..
تنهدت أسفاً وحسرةً وجُلت ببصري في حوش الجيران من خلف الستار الشفاف لغرفة مجلسنا. كان هناك صهريج ماء منذ عشر سنوات. كان حمزة يلف حوله مبتهجا لصراخي وهو يرميني بالماء. لم نكن ندري أنَّ تلك القطعة النقدية في قاع الصهريج تجذبه للعالم الآخر. منذ ذلك الحين وحمزة صغير لم يكبر بعد...
مضت ساعاتان بسرعة البرق ولم يتبق إلاَّ بضع لحظات لإقلاع الطائرة.
كانوا يبتعدون عني مودعين. وأنا أرقبهم بعيون دامعة من خلف زجاج السيارة، حتى بدا المطر غزيراً وبات فراقهم عزيزاً. لم آخذ منهم إلاَّ رائحة التراب الممزوج بذبال أوراق الكاليتوس التي تتعلق بأنفاسي، توقظ في رائحة الذكرى...