انتفضت
واقفة! تركت الكمبيوتر دون إغلاق. رحت أبحث بجنون عن فستاني السماوي
ذي الورود الصغيرة الحمراء المنمنمة بكسرات في الذيل.
ارتديته كثيراَ لم أملهُ يوما في تلك الطفولة الغابرة. لم أعثر على فستاني
السماوي، في ظهر ذلك اليوم كنت أرتديه عندما مشيت خلف جنازة أحدهم ، كان
الرجال يرددون ( لا إله إلا الله) والنساء يتبعهم في الخلف يولولن ويلطمن
جيوبهن ، كنت أسير برفقة ابنة عمي. بدوا كلهم مشغولين حتى أن أحدا من
الكبار لم ينتبه لوجودنا وكنا نسير مع السائرين. على حين غرة توقف الجمع
حملوا النعش الى تلة مغطاة بالحجارة والحشائش، واصلنا السير خلف الجمع
فإذا بأحدهم يدفعنا بعنف ويأمرنا بالابتعاد عن المكان .
شعرت بالغضب والحنق الشديد على ذلك الرجل . لماذا الكبار سيئون الى هذا
الحد فهم لا يحبون الأطفال! لماذا لا يريدوننا ان نبقى حيث نريد؟ لماذا
يدخلون هم فقط لهذا المكان؟
وقفنا في زاوية أسندنا ظهرنا الى جدران أحد البيوت القريبة كنا نرقب
المشهد من طرف بعيد، لا أرى إلا جمعا متحلقا ترى ماذا يفعلون؟ كنت أشعر
بغضب بالغ لأنهم منعونا من الدخول . عندما كبرت قليلا عرفت ان هذا المكان
يسمى المقبرة وهومخصص لإيداع الموتى .
يبدو انني لن أجد فستاني العزيز؟ لعلي أعثر على الحذاء الأبيض! أرغب الآن
في غمره ثانية بالسائل الأبيض وتلميعه، فلربما استعديت أيضا للذهاب
للمدرسة! كل الزوايا والأرفف خالية. لعلي أعثر على عقد (الخلال)* المقضوم؟
كأني به مازال طريا طازجا حتى الآن .
فآجأني حلول العصر فأنكببت على دفاتري أحل الواجبات المدرسية كي أفلت من العقاب الرهيب!
لا فستان سماوي، ولاحذاء أبيض، ولاعقد خلال، ولاكراريس، ولا عرائس القماش الملون. مالذي بقي من تلك الطفولة التي تلاحقني كل حين؟
اسندت وجهي إلى كفي أتأمل بحزن تقاسيم وجه تجاوز عقده الرابع بقليل.
كيف غادرتني الطفولة التي لم أغادرها!؟ صفحات تعتليها الغضون و جسد تفترشه ترهلات الحزن والألم ، تلاحقه الطفولة اينما حل .
أربعون! أين الحبل؟ أرغب في النط به في الباحة القريبة، الإراجيح المعلقة
في اغصان الشجرلعلها لم تزل هناك حيث تركتها قبل أكثر من ثلاثة عقود .
أين عيون الماء المليئة (بالحلاسين)* علني أتمكن من اصطيادها الآن بعد أن أصبح كفاي كبيرين وقبلا لم أفلح مرة في اصطيادها.
أربعون! أطفالي يمرحون حولي، لست سوى طفلة مثلهم! نداؤهم لي (بماما) يوقظني من غفلتي ويثير غيظني في آن.
طفولة مغايرة ومفارقة لطفولتي، لم تبصر اعينهم عيون الماء، لم يسرحوا في
غابات النخل الباسقة؟ ولم يستمعوا (لحكايات) الجدة، لم يفترشوا المراقد
القطنية المبللة بالندى في ليالي الصيف الحارة على السطح ولم يعدوا النجوم.
ثمة طفلة تلاحقني صبح مساء لاتكل لا تتعب، مرة لم أصدق أنني كبرت و لم
اشعر بزحف السنوات وإن أوسمتني تجعيدة كل صباح. لم أعترف بالزمن (هذا
الإبتكار السخيف) وأن امتننت له بإنوثتي وأمومتي وإبداعي .
ثمة رغبة جارفة للنط بالحبل، والتأرجح في مراجيح حبل النخيل، وأرجحة (الحية بية)* قبل قذفها للبحر.
لعلي لم أبرح بعد عامي السابع أوربما العاشر بقيت هاهنا في المنطقة
المحايدة بين الطفولة والمراهقة. بين حين وحين أهفو لعروساتي المصنوعة من
القماش ، وجريد النخل. أرسم خطوط السكينة وأنط كل حين أو أتأرجح في
المرجوحة المعلقة في غصن سدرتنا.
لا تصدقوا ! لم أبلغ الأربعين! وأن بحت لكم .
كل ما هناك انني نسيت حل الواجبات المدرسية أو تناسيتها بعد أن عاد لي
رشدي. أما عيون الماء فقد طُمرت فانقطعت عن محاولة صيد الحلاسين، والسدرة
اجتثت فأنقطعت عن التأرجح، النخلة يبست فلم أجد الخلال والحبنبو* لأصنع
العقد الأخضر .
1. عقد الخلال: عقد يصنع من البلح الأخضر الصغير قبل أن ينضج ويلبسه الأطفال عادة.
2. الحلاسين: السمك الصغير جداً وكان يوجد في عيون الماء الطبيعية.
3. الحية بية : أصيص صغير مصنوع من الخوص يزرع بداخله نبات الشعير ويرميه
الأطفال في البحر ظهر عيد الأضحى كأضحية، ويرافق رمي الحية بية أغنية
يرددها الأطفال قبل الرمي في البحر.
4. الحبنبو: هو أيضاً الخلال ولكنه أصغر منه .