السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
لم تكن قرطاجة مدينة عادية ولا مركزا تجاريا فينيقيا كغيره، بل كانت مدينة استثنائية لم تعرف مدينة أخرى في العالم القديم مصيرا أكثر تراجيدية من مصيرها ولا رفاهية تجارية أحسن مما كان لها، نافست الإغريق والرومان وسعت للسيطرة على البحر الأبيض المتوسط. و تحقق لها ذلك ولو على المدى القصير. وغزت أوربا وهددت روما وهي في أوج قوتها. وحسب الأسطورة المشهورة أسست قرطاجة على يد عليسا(Elissa) التي فرت من موطنها الأصلي صور بعد استيلاء أخيها بيغماليون (Pygmalion) على عرش مملكة صور بالقوة وقتله عاشرباص(Acrabas) كاهن معبد (Melqart) و زوج أخته عليسا. و بعد رحلة بحرية طويلة أرست السفن على الساحل الإفريقي، ونزلت الأميرة وفاوضت أحد القادة المحليين بالمنطقة لمنحها أرضا تبني عليها مدينة جديدة. غير أن القائد أبى أن يمنحها أكثر من مساحة جلد تور، فقبلت الأميرة بذلك وأمرت بقطع جلد الثور إلى أشرطة دقيقة وطويلة أحاطت بها الهضبة التي تعرف اليوم بهضبة بيرصة (Byrsa) وهو اسم محلي يعني جلد الثور.
وبخصوص هذه النقطة كتب شارل أندريه جوليان مايلي: "إن بعض المستعمرين القادمين من صور وقبرص الذين تعتبرهم الأسطورة- خطأ على ما يبدو –لاجئين هم الذين أسسوا سنة 814 في عهد الملك بيغماليون "قرط حد شت" أي المدينة الحديثة" . ومهما يكن من أمر هذه الأسطورة لابد من الإشارة إلى أن الفترة التي تأسست فيها قرطاجة، شهدت أيضا تأسيس عدة مراكز تجارية على السواحل الإفريقية من طرف البحارة والتجار الفينيقيين في إطار التوسع الفينيقي غرب البحر الأبيض المتوسط، وبالتالي كانت قرطاجة كغيرها من المحطات الفينيقية مجرد مركز تجاري بسيط تابع للمدينة الأم صور. إلا أن هذه التبعية دامت مدة قصيرة فقط أي إلى حدود بداية القرن 7 ق م حيث بدأت قوة صور تتراجع تحت ضربات الآشوريين وكان من نتائج ذلك أن صور لم يعد باستطاعتها فرض سيطرتها على معظم المراكز التجارية. وهذا ما سمح لقرطاجة بالتحرر من تبعيتها لأمها صور بعد قرنين من تأسيسها علما بأن هذه التبعية كانت بالأساس دينية( أداء ضريبة سنوية وتقديم الهدايا لمعبد الإله ملقارت). وقد تمكنت قرطاجة في مدة زمنية لا تتجاوز 150 سنة من اكتساح عدة مناطق تقع غرب حوض البحر الأبيض المتوسط للسيطرة على جل المراكز الفينيقية بها وتكوين إمبراطورية تجارية مترامية الأطراف.
تجدر الإشارة إلى أن موقع قرطاجة الجغرافي كان له دور في ازدهارها وإشعاعها. وفي هذا السياق وصفها المؤرخ الإغريقي Appien)) بأنها أشبه ما تكون بالسفينة الراسية لأنها بنيت في شبه جزيرة محاطة بالبحر من ناحية وبالبحيرتين من ناحية ثانية، مما جعل وجهتها بحرية أكثر منها برية . وهذا الوضع الجغرافي الذي ساعدها على التوسع في إفريقيا والتبادل مع العالم الشرقي والغربي، كان له أيضا أهمية عسكرية فهي كما يقول شارل جوليان كمثيلاتها من المدن الفينيقية أنشئت على رقعة من الأرض متوغلة في البحر تفصل بين بحيرة تونس الصالحة للملاحة وسبخة أريانة ، و حصنت المدينة بأسوار وصل طولها 34 كلم في سمك يقدر ب 13 مترا وارتفاع ب 9 أمتار مع أبراج للمراقبة تبتعد عن بعضها البعض كل 60 مترا . أما الميناء الذي كان القلب النابض للإقتصاد القرطاجي فيتكون من مرفأين : الأول داخلي وهو الميناء الحربي الذي كان له شكل دائري والثاني خارجي له شكل مستطيل وهو مخصص لإرساء السفن التجارية.
وتعتبر قرطاجة بمثابة الوريث الوحيد للنشاط التجاري والملاحي الفينيقي، إلا أن نظامها السياسي كان مغايرا لما كان عليه الحال في صور، ولم يكن نسخة طبق الأصل رغم أن المرحلة الملكية التي عرفت تعاقب 3 أسر ملكية من 550 ق.م إلى نهاية القرن 3 ق. م، قد تبدو استمرارا لما كان موجودا في حكومات المدن الدولية الفينيقية، إلا أنها اختلفت في جوهرها، ذلك أن الملك كان يتم اختياره من طرف الطبقة الغنية في المجتمع. وفي فترة لاحقة حل نظام القضاة (Suffètes) وهو نظام شبيه بنظام الحكم في روما إبان العهد الجمهوري، بحيث يتم انتخاب حاكمين مدنيين من طرف الشعب كل سنة. وتوفرت الدولة القرطاجية أيضا على مجلس شيوخ مكون من 300 عضو يعينون لمدى الحياة وينتمون لأغنى طبقة في المجتمع، مما يعني أن الدولة القرطاجية كانت بيد التجار الأغنياء الذين كانوا يتحكمون في القرارات السياسية التي تتلاءم مع مصالحهم.