هذه قصة يرويها شخص عن صديقه المدخن :-
أخيراً وجدت العمل المريح الذي أريد، مكتب رحب وهواء مكيف كل شيء ولله الحمد كما كنت أحلم بل وأكثر، لكن هناك شيء واحد يعكر صفو هذا كله، ما هو؟
أترى ذاك الزميل القابع خلف طاولته، هو من أفضل من صحبت؛ خلوق.. بشوش.. طيب المعشر، غير أن عيبه الوحيد كامن في أصبعيه، أجل أصبعيه اللتين متى نظرت إليهما وجدتهما تعتصران عود السيجارة.
سبحان الله! ألا يتعب منذ أن وصل في السابعة والآن نحن في الظهيرة وهو يتنقل من واحدة إلى أخرى، الأدهى أن لا يفتأ يدعوني إلى أخذ واحدة بين الفينة والأخرى.
حاولت أن أصرف نظري عنه إلى ما أمامي من عمل مخافة الغيبة غير
أني ما استطعت، فالدخان يملأ الغرفة كل لساني في نصحه، فهو إن لم يخف على نفسه فما ذنبنا لنهلك معه، جمعت التقارير والمقالات وواجهته بأننا أكثر تضرراً منه، لكن لا حياة لمن تنادي.
تنبهت إلى أنه يبادلني نظرة متسائلة مستنداً إلى كرسيه آخذاً نفساً عميقاً لتزداد السحب بيننا، فقلت: سالم! أود أن أطلب منك أمراً.. لكني خجل.
اعتدل في كرسيه وقال – محدقاً في سيجارته – لا تطلب مني التوقف، فهي أحب إلي من أبنائي.
لوحت بكفي وقلت: لا، فقد اعتدت رائحتها النتنة. نهض وسحب كرسيه ليجلس أمامي قائلاً: حقاً.. إذن خذ واحدة وجربها.. لن تندم.
نظرت إلى سيجارته بنظرة ملؤها الكره، فأطفأها مرغماً وقال: حسن ماذا لديك؟ اطلب ولا تخجل فنحن إخوة.
هذا هو سالم ما أن يعلم أنك في ضيق حتى يهرع لمعونتك، لكن كما قلت عيبه السجائر وقلت مصطنعاً الارتباك سالم! أنا بحاجة للمال.
لم ينتظر حتى أنتهي من سرد الأسباب، بل قاطعني وهو يضرب على كتفي ممازحاً كعادته: أهذا كل شيء؟.
وأدخل يده في جيبه يخرج منها ما تيسر له دفعه مستطرداً والابتسامة تعلو وجهه.
أكره هذه المقدمات وأنت تعرف ذلك، وكما تعرف أني لا أستطيع ردك في شيء.
أخذت النقود وشكرته على أن أردها في أقرب فرصة، فسألني: لكن لم تخبرني أنك تمر بضائقة مالية من قبل.
لم أجبه وأنا أقلب في أوراق درجي، فأخرج علبة سجائره وولاعة من جيبه، وشرع في إشعال سيجارته، فخطفت الولاعة قائلاً: عن إذنك! .
دهش سالم من فعلي واتسعت عيناه أكثر وهو يراقبني وأنا أشعل النار في النقود التي اقترضتها منه بنشوة ومتعة فصاح: ماذا تفعل أيها المجنون.
تجاهلته وأنا أرقب النار تأتي على بقية النقود في استمتاع فأمسك بتلابيب قميصي يهزني.
أيها المجنون.. ما هذا الذي تفعله؟.
لا شأن لك.. نقودك وسأعيدها إليك.
احمر وجهه غضباً قائلاً: كيف لا شأن لي.. تحرق النقود وأهلك وأولادك، فقلت له: لم كل هذا الغضب وأنت تفعل الشيء ذاته.
بهت من برود ردي وتراخت قبضته مردداً: أنا.. أنا أفعل مثلك.. متى كان هذا؟
عدلت من هندامي وقلت: تفعله منذ أكثر من عشرين عاماً.. بل وأدمنته، واعترفت بلسانك أنك تحبه أكثر من أولادك.
اتسعت عيناه وعقد لسانه عن النطق، فتابعت: على الأقل مجنون مثلي يحرق أوراقه النقدية لا يضر غيره كما تفعل أنت.. وحضرتك تدفع المال لتحرق نفسك وتحرق من حولك بهذا السم فأينا المجنون؟