لي أخٌ كنت أحبه حبي لشقيقي وأشدّ، كان عَطِر اللسان بالذكر، وعَطِر الجنان بالإيمان، تلمع عيناه دائمًا، وتهجّ قريحته بأفكار للدعوة تقفز إلى مخيلته حتى وهو بين أهله وأولاده، فهو دائمًا مشغول بالدعوة وقتًا وعقلاً ومالاً.
وحدث أن سمح للدنيا أن تدخل قلبه؛ ظانًا أنها ستدخل لدقائق ثم ترحل، ولكنها سرعان ما أذاقته بردها، ونفضت غبار الجهاد عنه، فاستسلم لها!! فأمدَّته بالمال فازداد استسلامًا، وأراحته من بعض هموم دعوته فمنحها أكثر وأكثر من الاهتمام بها والانزلاق في وحلها.
فقدتُه زمنًا!!
أبحث عنه في صلاة الفجر فلا أجده..!!
أتفقده في جلسات الإخوان فأفقده..!!
وأحاول أن أستحضر صورته في ورد الرابطة فتهرب مني..!!
إلى أن رأيته ذات يوم، لكن بهيئة غير الهيئة.. فلا نور يكسو الوجه كما كان، ولا ذكرَ لله- على مدار ساعة جلسناها- عطَّر جلستنا، وهو الذي كان يوقظني بهاتفه في الثلث الأخير من الليل بصوتٍ فيه بقية دموع، قائلاً: يا أخي.. دقائق الليل غالية فلا تضيعها في الغفلة.
المهم رثيت لحاله، وقلت له: متى نظرت في المرآة لآخر مرة؟
فقال اليوم صباحًا، فقلت ليس مرآةَ حجرةِ النوم أعني!! ولكن مرآة الدعوة، أي متى عرضت نفسك على صورتك الأولى التي تعرفها آخر مرة؟! فسكت، وطأطأ رأسه، وهمَّ أن يقوم، فأمسكت بذراعه وأجلسته، وقلت له: أخَجَلاً من حالك أم رفضًا لما أقول؟!
فبكى بكاءً ذكَّرني بعينيه اللتين كانتا دائمة اللمعان من كثرة البكاء من خشية الله، ثم قال: تخيَّل أنك أول أخٍ يهز قلبي هذه الهزة العنيفة، تخيَّل أنني كدت أموت وإخواني يرونني على هذه الحال ولا يصرخون فيَّ؛ لينقذوني من الغرق والهلاك.
ثم علا صوت بكائه، وهو يقول: آهٍ وألفُ آهٍ على إخوانٍ مثلي؛ استهوتهم الشياطين وشغلتهم الدنيا، ولم يصرخ في آذان قلوبهم أحدٌ.. حتى إخوانهم الذين كانوا يعدونهم للضراء قبل السراء، ثم ارتمى في حضني فبكى وأبكاني، ثم احتضنني بشدة وكأنه يتمسك بي ويتعلق من شيءٍ يجذبه بشدة، أحسبها الدنيا التي كادت أن تقتله، فازددتُ لهفةً عليه واحتضانًا حتى هدأَ روعه وسكنت ارتعاشة جسده.
ثم قام وهمَّ بأن ينصرف فقلت له إلى أين؟! فقال إلى إخواني الذين ذاقوا حلاوة ما ذقنا ثم هجروا.. إلى فلان وفلان الذين غرَّهم مال التجارة، وشغلهم مستقبل الولد، وإسعاد الزوجة، وتراكُم الأرصدة، فنسوا لآلئ الجنة ورفقة النبي- صلى الله عليه وسلم - وصحبه؛ لأصرخ فيهم كما صرخت فيَّ، لأقول لكل واحد فيهم.. يا أخي اركب معنا ولا تكن مع الغارقين، ثم انصرف.
وتذكرت ساعتها على الفور قصة عمر بن الخطاب عندما ذُكر له أن صاحبًا له ضلَّ بعد هداية، وبُعد بعد قرب حتى أسرف على نفسه، فكتب عمر رسالةً فيها "بسم الله الرحمن الرحيم "تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنْ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ* غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ" (غافر: 1-2) فلما وصلته أخذ يقرؤها ويبكي، وهو يقول: غافر الذنب وقابل التوب، ويكررها مرارًا، ثم صلح حاله، فلما بلغ عمرَ أمرُه قال: هكذا فاصنعوا مع إخوانكم إذا تغيَّرت أحوالهم.
تُرى كم من أخٍ غيرته الدنيا، وغرته الشياطين، لكن وراء هذا الحال المتغير والنفس المنهكة قلبٌ مفعم بحب الدعوة وعشق الإخوان، ينتظر أن يمر عليه أحد أصحاب سفينة النجاة ليقول له: يا أخي.. اركب معنا ولا تكن مع الغارقين، أو رسالة كرسالة عمر، تصرف بها الدنيا والشياطين عن قلب أخيك، فتعيده لصفوف الحق راشدًا، لقد كان يومًا ما شريكك في مائدة الكتيبة ورفيقك في أسرة الإيمان..
فهل تدركه؟!
قم الآن.. وارتد ملابسك.. واخرج إليه فهو ينتظرك.. فلا تخذله.