كان فيما اُثر من أشعار العرب ، ونقل إلينا من تراثهم
الأدبي الحافل بضع قصائد من مطوّلات الشعر العربي ، وكانت من أدقّه معنى ،
وأبعده خيالاً ، وأبرعه وزناً ، وأصدقه تصويراً للحياة ، التي كان يعيشها
العرب في عصرهم قبل الإسلام ، ولهذا كلّه ولغيره عدّها النقّاد والرواة
قديماً قمّة الشعر العربي وقد سمّيت بالمطوّلات ، وأمّا تسميتها المشهورة
فهي المعلّقات . نتناول نبذةً عنها وعن أصحابها وبعض
الأوجه الفنّية فيها :
فالمعلّقات لغةً من العِلْق : وهو المال الذي يكرم عليك ، تضنّ به ، تقول
: هذا عِلْقُ مضنَّة . وما عليه علقةٌ إذا لم يكن عليه ثياب فيها خير ،
والعِلْقُ هو النفيس من كلّ شيء ، وفي حديث حذيفة : «فما بال هؤلاء الّذين
يسرقون أعلاقنا» أي نفائس أموالنا . والعَلَق هو كلّ ما عُلِّق .
وأمّا المعنى الاصطلاحي فالمعلّقات : قصائد جاهليّة بلغ عددها السبع
أو العشر ـ على قول ـ برزت فيها خصائص الشعر الجاهلي بوضوح ، حتّى عدّت
أفضل ما بلغنا عن الجاهليّين من آثار أدبية4 .
والناظر إلى المعنيين اللغوي والاصطلاحي يجد العلاقة واضحة بينهما ،
فهي قصائد نفيسة ذات قيمة كبيرة ، بلغت الذّروة في اللغة ، وفي الخيال
والفكر ، وفي الموسيقى وفي نضج التجربة ، وأصالة التعبير ، ولم يصل الشعر
العربي إلى ما وصل إليه في عصر المعلّقات من غزل امرئ القيس ، وحماس
المهلهل ، وفخر ابن كلثوم ، إلاّ بعد أن مرّ بأدوار ومراحل إعداد وتكوين
طويلة .
وفي سبب تسميتها بالمعلّقات هناك أقوال منها :
لأنّهم استحسنوها وكتبوها بماء الذهب وعلّقوها على الكعبة ، وهذا ما ذهب
إليه ابن عبد ربّه في العقد الفريد ، وابن رشيق وابن خلدون وغيرهم ، يقول
صاحب العقد الفريد : « وقد بلغ من كلف العرب به )أي الشعر) وتفضيلها له أن
عمدت إلى سبع قصائد تخيّرتها من الشعر القديم ، فكتبتها بماء الذهب في
القباطي المدرجة ، وعلّقتها بين أستار الكعبة ، فمنه يقال : مذهّبة امرئ
القيس ، ومذهّبة زهير ، والمذهّبات سبع ، وقد يقال : المعلّقات ، قال بعض
المحدّثين قصيدة له ويشبّهها ببعض هذه القصائد التي ذكرت :
برزةٌ تذكَرُ في الحسـ ـنِ من الشعر المعلّقْ
كلّ حرف نـادر منـ ـها له وجـهٌ معشّ
أو لأنّ المراد منها المسمّطات والمقلّدات ، فإنّ من جاء بعدهم من الشعراء
قلّدهم في طريقتهم ، وهو رأي الدكتور شوقي ضيف وبعض آخر . أو أن الملك إذا
ما استحسنها أمر بتعليقها في خزانته .
هل علّقت على الكعبة؟
سؤال طالما دار حوله الجدل والبحث ، فبعض يثبت التعليق لهذه القصائد
على ستار الكعبة ، ويدافع عنه ، بل ويسخّف أقوال معارضيه ، وبعض آخر ينكر
الإثبات ، ويفنّد أدلّته ، فيما توقف آخرون فلم تقنعهم أدلّة الإثبات ولا
أدلّة النفي ، ولم يعطوا رأياً في ذلك .
المثبتون للتعليق وأدلّتهم :
وأمّا الاُدباء المحدّثون فكان لهم دور في إثبات التعليق ، وعلى سبيل المثال نذكر منهم جرجي زيدان حيث يقول :
» وإنّما استأنف إنكار ذلك بعض المستشرقين من الإفرنج ، ووافقهم بعض
كتّابنا رغبة في الجديد من كلّ شيء ، وأيّ غرابة في تعليقها وتعظيمها
بعدما علمنا من تأثير الشعر في نفوس العرب؟! وأمّا الحجّة التي أراد
النحّاس أن يضعّف بها القول فغير وجيهة ; لأنّه قال : إنّ حمّاداً لمّا
رأى زهد الناس في الشعر جمع هذه السبع وحضّهم عليها وقال لهم : هذه هي
المشهورات ، وبعد ذلك أيّد كلامه ومذهبه في صحّة التعليق بما ذكره ابن
الأنباري إذ يقول : وهو ـ أي حمّاد ـ الذي جمع السبع الطوال ، هكذا ذكره
أبو جعفر النحاس ، ولم يثبت ما ذكره الناس من أنّها كانت معلّقة على
الكعبة . »
وقد استفاد جرجي زيدان من عبارة ابن الأنباري : « ما ذكره الناس » ،
فهو أي ابن الأنباري يتعجّب من مخالفة النحاس لما ذكره الناس ، وهم
الأكثرية من أنّها علقت في الكعبة .
لقد وقف المثبتون موقفاً قويّاً ودافعوا بشكل أو بآخر عن موقفهم في صحّة
التعليق ، فكتبُ التاريخ حفلت بنصوص عديدة تؤيّد صحّة التعليق ، ففي العقد
الفريد ذهب ابن عبد ربّه ومثله ابن رشيق والسيوطيوياقوت الحموي وابن
الكلبي وابن خلدون ، وغيرهم إلى أنّ المعلّقات سمّيت بذلك; لأنّها كتبت في
القباطي بماء الذهب وعلّقت على أستار الكعبة ، وذكر ابن الكلبي : أنّ أوّل
ما علّق هو شعر امرئ القيس على ركن من أركان الكعبة أيّام الموسم حتّى نظر
إليه ثمّ اُحدر ، فعلّقت الشعراء ذلك بعده .
النافون للتعليق :
كارل بروكلمان حيث ذكر أنّها من جمع حمّاد ، وقد سمّاها بالسموط
والمعلّقات للدلالة على نفاسة ما اختاره ، ورفض القول : إنّها سمّيت
بالمعلّقات لتعليقها على الكعبة ، لأن هذا التعليل إنّما نشأ من التفسير
الظاهر للتسمية وليس سبباً لها ، وهو ما يذهب إليه نولدكه .
وعلى هذا سار الدكتور شوقي ضيف مضيفاً إليه أنّه لا يوجد لدينا دليل
مادّي على أنّ الجاهليين اتّخذوا الكتابة وسيلة لحفظ أشعارهم ، فالعربية
كانت لغة مسموعة لا مكتوبة . ألا ترى شاعرهم حيث يقول :
ولعلّ أوّلهم والذي يعدُّ المؤسّس لهذا المذهب ـ كما ذكرنا ـ هو أبو جعفر
النحّاس ، حيث ذكر أنّ حمّاداً الراوية هو الذي جمع السبع الطوال ، ولم
يثبت من أنّها كانت معلّقة على الكعبة ، نقل ذلك عنه ابن الأنباري . فكانت
هذه الفكرة أساساً لنفي التعليق :