الحبيب غريسي عضو مـلــكــي
الجنس : المساهمات : 10498 العمر : 42 العمل/الترفيه : معلم المزاج : كن جميلا ترى الوجود جميلا تاريخ التسجيل : 18/09/2009
| موضوع: سبب الجنون الأربعاء مايو 05 2010, 20:12 | |
| سبب الجنون
كان الصمت والهدوء الكامل يلفان البرية ، ولا تسمع سوى أصوات الطيور تزقزق وهي تطير من شجرة إلى أخرى ، أو أصوات حفيف أشجار الصنوبر حين تعبث بها الرياح ، لكن قلقا ما كان ينتاب " سي الطيب " ومجموعته من جنود جيش التحرير وهم في مدخل مغارتهم يتحدثون . ومصدر هذا القلق أنهم أخبروا عن تحركات مشبوهة للجنود الفرنسيين البارحة ، ويبدو أنهم يستعدون لعملية ما ربما قد تكون تمشيطا للمنطقة . ولم يكن يريحهم سوى أمر واحد وهو أن المغارة التي يلجؤون إليها مخفية جيدا بين صخور عظيمة وسط غابة الصنوبر ، حيث يستحيل على الفرنسيين رؤيتها حتى وإن مروا بالقرب منها . لكن كل هذا لا يعني عدم الحذر واتخاذ احتياطات صارمة ، فقد ضاعف سي الطيب من عدد الحراس حيث أمر أربعة من الجنود أن يتربصوا في أماكن مرتفعة في كل الجهات المحيطة بالمكان كما أمر الجنود الآخرين بأن لا يغفلوا عن أسلحتهم وأن يكونوا على أتم الاستعداد لمواجهة أي طارئ .
كان أحد الجنود الذين يتولون الحراسة واقفا على صخرة تطل على كامل المنطقة من الجهة الشرقية ، و يمتد المنظر منها حتى طريق السيارات حيث يمكن للعربات العسكرية الفرنسية الوصول إليها . وبينما كان يجيل ببصره بعيدا يترقب أي حركة مشبوهة إذا به يرى من بعيد قافلة من العربات تسير على الطريق . ركز بصره جيدا ولما تأكد من أنها شاحنات عسكرية قفز بخفة من على الصخرة وانحدر مسرعا إلى المغارة وأخبر سي الطيب بما رآه وهو يلهث . وبسرعة أخذ سي الطيب منظاره وذهب إلى الصخرة فرأى الجنود وهم ينزلون من الشاحنات المتوقفة ويختبئون بين الأحراش ، ورأى منظرا آخر أفزعه : كان هناك مدفعان ثقيلان قد ثبتا ويبدو أنهم يستعدون لإطلاق قذائف منهما . وأسقط في يد سي الطيب وانتابه الشك في أن هذه عملية تمشيط عشوائية . أيمكن أن يكونوا قد كشفوا موقع المغارة ؟ أيمكن أن يكونوا قد أتوا لقنبلتها ؟ كيف ذلك والمغارة في مكان وعر صعب التضاريس والمسالك ؟ وفي الحال عاد إلى المغارة وهناك وجد جنديا آخر مكلفا بحراسة الجهة الغربية يلهث وقد شاع الفزع في وجهه : كان هناك جنود فرنسيون أيضا قد أتوا من الجهة الغربية ويبدو أن وجهتهم هي المكان الحصين حيث المغارة . وهنا أدرك سي الطيب الموقف : لقد كشفوا المكان وقد جاءوا لمحاصرته ، سيقصفونه بالمدافع بينما يقوم الجنود بتطويقه . إنهم يريدون محاصرتنا كالجرذان إذن ...
ما كادت هذه الخاطرة تمر بذهنه حتى دوى انفجار عنيف هز المكان كالزلزال ، إنها أولى القذائف قد سقطت بالقرب من المغارة . لم يعد هناك شك إذن فيما فكر به . خرج الجنود من المغارة مسرعين فأمرهم سي الطيب بالانسحاب من المكان بسرعة قبل أن يسقطوا تحت رحمة القذائف ، وأن يتجهوا شمالا حيث الوادي المليء بالأدغال وأشجار الصنوبر ، وبينما كانوا ينفذون ذلك كانت القذائف تتهاطل على المكان كالمطر محولة إياه إلى جحيم . ولكنهم ما إن نزلوا الوادي حتى استقبلهم وابل من الطلقات النارية . شاهد سي الطيب ثلاثة من جنوده يسقطون ، كان وضعا متأزما وخطيرا ، فأمر المجاهدين بالصعود من جديد من جهة أخرى واحتلال مكان مرتفع لكي يتمكنوا من الرد على جنود الاحتلال . وبدا واضحا عدم تكافؤ المعركة فالمجاهدون لم يكونوا مسلحين سوى ببنادق الصيد ما عدا سي الطيب الذي كان يحمل رشاشة ، وكان يبدو أيضا أنهم محاصرون من كل الجهات . ولم يكن هناك سوى حل وحيد وهو إيجاد منفذ للانسحاب من المكان بأقل الخسائر . أمر رجاله بتكثيف إطلاق النار والانسحاب في الوقت نفسه ، ولحسن حظهم كان هناك منفذ من الوادي صعب المسلك ولم يتمكن الفرنسيون من الالتفاف حوله . كان سي الطيب آخر المنسحبين لأنه يملك الرشاشة التي كان يطلق منها النار بكثافة باتجاه الفرنسيين . تباطأ قليلا عله يتمكن من سحب أحد جنوده الذين سقطوا لكن جنود الاحتلال كانوا قد تكاثروا على المكان فلم ير بدا من مغادرة المكان بسرعة .
صار يركض ويركض وقد انفصل عن باقي رجاله الذين كانوا قد انسحبوا ، فوصل إلى رحبة منبسطة توجد في وسطها شجرة خروب عملاقة لما بلغها ألقى بنفسه إلى جذعها وسقط من الإعياء . ولم تمر بضع دقائق حتى سمع صيحات الجنود الفرنسيين وقد أتوا من كل الجهات ، نهض يريد الهرب لكنه لاحظ أنه في مكان مكشوف وإن هو تقدم خطوة واحدة ضبطوه ، ولم يكن في المكان سوى شجرة الخروب العملاقة تلك فتسلقها واختبأ بين أغصانها الكثيفة . تكاثر الجنود الفرنسيون على المكان من كل الجهات ، وتجمعوا في الرحبة حول شجرة الخروب ذاتها وسي الطيب فوقها جالس على أحد أغصانها كالصنم لا يأتي بحركة ورشاشته بين يديه . كان الوقت أصيلا فقرر الفرنسيون قضاء الليلة هناك ، فوضعوا حقائبهم على الأرض وجلسوا . وبقي سي الطيب في أعلى الشجرة كالتمثال يتنفس بهدوء شديد حتى لا يكشف أمره وينتظر الفرصة الملائمة للنزول ومغادرة المكان . انتظر حتى تقدم الليل ولما رأى أن الجنود الفرنسيون قد غطوا في نومهم ، وقد وضعوا حارسا واحدا كان رأسه يترنح من النعاس نزل بخفة من شجرة الخروب وسار بين الفرنسيين النائمين بهدوء وحذر . كانت تكفي خشخشة صغيرة لإيقاظهم و لكن الله ستر ولم ينتبه أحد ، ولما وصل إلى الحارس الذي التفت مذعورا أشار إليه برشاشته وأصبعه على شفتيه أن اسكت . لم ينطق الجندي الفرنسي بكلمة واحدة وقد جفت الدماء من وجهه من الرعب . وهكذا انسحب من بين أعداءه ولم يكن يفصل بينه وبين حتفه سوى خيط رقيق جدا ! ...
***
لما عاد سي الطيب إلى جنوده وصار في مكان آمن لم يكن في ذهنه سوى سؤال واحد : كيف كشف الفرنسيون مكانهم ومن السبب في ذلك ؟ كان يفكر في أن هناك خيانة ما وأن أحدهم قد " باعهم " ، وقد وطن نفسه على التحري والبحث عن هذا الخائن وتأديبه ... بعد أيام وصلته معلومات عن الفاعل ، كان " حركيا " قد تجند مع المستعمر منذ أيام فقط . وكانوا قبل ذلك قد وثقوا به وكلفوه يوما بحمل الماء إلى مغارتهم فعرف مكانها وأخبر الفرنسيين ، بل وأكثر من ذلك قد تجند معهم ليحارب إخوانه . إذن فهذا خائن يستحق الموت . وطيلة أيام كان سي الطيب يخطط للإيقاع بهذا الخائن وتصفيته .
وفي اليوم المنتظر اصطحب سي الطيب اثنين من رجاله ونزلوا إلى القرية ، وكانت وجهتهم منزل ذلك الخائن . وجدوه هناك ، فقيدوه وربطوا فمه بقطعة قماش وأحضروه . إذن هذا هو الخائن ، اليوم ستدفع ثمن خيانتك واليوم سنثأر للشهداء الثلاثة الذين سقطوا يوم أن خنتنا . وفكر سي الطيب في أن العقاب الوحيد الذي يمكن أن ينزله بمن خان وطنه وتسبب في كشف مكان حصين للمجاهدين و استشهاد ثلاثة منهم هو الذبح . وقرر أن يفعل ذلك بنفسه فأمر الجنديين بأن يأخذوه إلى مكان متطرف من القرية . استعاد سي الطيب ذكريات ذلك اليوم ، قذائف المدافع والحصار والرصاص يخترق صمت البرية المطبق ، ورجاله الذين استشهدوا وكذلك ركضه في الغابة ولجوءه إلى شجرة الخروب وكيف كان على بعد شبر فقط من الموت . ثم أخرج سكينه وأمسك بالخائن ولكنه ما إن جذب سكينه حول عنق الخائن مرة واحدة حتى سمع صرخات وطلقات نار كثيفة باتجاههم وفي الحال أطلق الخائن والسكين من يده وفر هو ورجاله إلى الغابة . ولم يدر سي الطيب حتى إن كان قد تمكن من ذبحه أم لا ، فقد فاجأهم وصول الجنود الفرنسيين وهم يطلقون النار باتجاههم ...
لم يعرف سي الطيب بعد ذلك شيئا عما حل بذلك الخائن فقد كلف بعد ذلك بمهمة أخرى في منطقة أخرى ، وانغمس في جهاده يحارب المستعمر ويخوض معركة تلو المعركة ويتنقل من منطقة إلى أخرى حتى جاء ذلك اليوم ، اليوم الذي خرج فيه المستعمر مهزوما ذليلا وجاء الاستقلال ...
***
بعد الاستقلال عاد سي الطيب كما كان رجلا بسيطا يكافح الحياة من أجل ضمان لقمة العيش ، وعاد إلى مهنته القديمة فلاحا يملك زوجا من البغال يحرث بهما حقول القرويين مقابل أجر . وكان الناس ورفقاؤه المجاهدون يحثونه دائما على الذهاب إلى مكتب المجاهدين للحصول على حقه ، وكانوا يقولون لـه إن هناك أناسا لا علاقة لهم بالثورة ومع ذلك فقد كذبوا وبحثوا عن وساطات وزوروا حتى سجلوا في قوائم المجاهدين وحصلوا على أموال وامتيازات متعددة فكيف لا يفعل هو ذلك وهو المجاهد الكبير والمعروف ؟ وكان يرد عليهم أنه إذ التحق بالثورة لم يكن ينتظر أي أجر وإنه إنما فعل ذلك جهادا في سبيل الله ولأنه وطني عز عليه أن يرى وطنه يرزح تحت قيود الاستعمار وأنه مادام يتمتع بصحة جيدة فإنه سيعمل ما توفر حتى يضمن قوته وقوت عائلته ، وكان الناس يكبرون هذا الموقف منه ويزيدهم احتراما لـه واحتقارا لأولئك المجاهدين المزيفين الانتهازيين الذين لم يقدموا أي شيء لوطنهم ومع ذلك تراهم السباقين إلى الحصول على خيراته ...
ومرت سنوات وتقدم سي الطيب في السن وضعفت قوته وزاد عدد أفراد عائلته وشحت عليه مصادر الرزق ، ووجد نفسه مضطرا للحصول على معونة من الدولة ، وبعد تفكير طويل قرر أن يذهب إلى مكتب المجاهدين ليحصل على حقه الطبيعي لقاء التضحيات التي قام بها وكفاحه الطويل ضد المستعمر ...
غادر قريته إلى المدينة التي يوجد فيها المكتب الذي يعنى بشؤون المجاهدين ، ولما دخل إليه رأى منظرا غريبا لم يصدقه للوهلة الأولى ، خيل إليه أنه رأى شخصا يعرفه جالسا وراء المكتب ولكنه ليس أي شخص إنه ذلك الخائن الذي هم بذبحه أو ذبحه ذات مرة جزاء لـه على بيعه وطنه ! حدق فيه بذهول ، فرك عينيه غير مصدق ، عادت إليه كل تلك الذكريات عن الثورة وخاصة ذكريات ذلك اليوم المشؤوم ، ثم هجم عليه بشراسة وسط دهشة الموظفين والناس الذين كانوا حاضرين ، أمسكه بعنف بيده عند صدره وحدق فيه طويلا ، ثم أمسكه من شعره ورفع رأسه فرأى منظرا صدمه صدمة عنيفة ، رأى ندبة في عنقه هي أثر الجرح الذي سببه لـه عندما هم بذبحه منذ زمن طويل ! لقد كانت صدمة عنيفة لـه خلخلت شعوره وطيرت عقله فصرخ صرخة عظيمة فقد بعدها عقله ولم يعد يعرف ما يفعل ...
***
يعرف الناس الآن سي الطيب الشيخ المجنون الذي يأتي من قرية بعيدة يوم السوق على دراجته النارية التي لا يفارقها أبدا ، حتى أنها صارت عنوانا لـه ، فإن أخبر أحد الآخر عن سي الطيب المجنون تجده يقول : من ؟ ذلك الشيخ الذي يأتي بدراجة نارية من نوع كذا ؟ ... وقلة هم الذين يعرفون أن سي الطيب هذا كان مجاهدا كبيرا خاض معارك طاحنة وشهد أياما مهولة أثناء الثورة ، وقلة هم الذين يعرفون سبب جنون هذا الشيخ الذي يمشي في الشوارع والأسواق يتحدث بكلمات لا معنى لها ويقول كلاما لا أصل لـه هو الذي ، أثناء الثورة ، كانت كلماته نورا يستضيء بها رجاله وهم يحاربون المستعمر أو أوامر ينفذونها فينتصرون في معاركهم ...
وليد ساحلي .
قنزات . فيفري 2007 . |
|
ilyes مدير المنتدى
الجنس : المساهمات : 28233 العمر : 34 العمل/الترفيه : ليسانس تربية بدنية ورياضية تاريخ التسجيل : 05/12/2008
| موضوع: رد: سبب الجنون الجمعة مايو 07 2010, 12:55 | |
| بارك الله فيك اخ الحبيب على القصة
|
|
الحبيب غريسي عضو مـلــكــي
الجنس : المساهمات : 10498 العمر : 42 العمل/الترفيه : معلم المزاج : كن جميلا ترى الوجود جميلا تاريخ التسجيل : 18/09/2009
| موضوع: رد: سبب الجنون الجمعة مايو 07 2010, 17:25 | |
| شرفني كثيرا مرورك من هنا أخي إلياس |
|
Ŧђĕ ρµŅĨѕĤέГ عضو مـلــكــي
الجنس : المساهمات : 11623 العمر : 32 العمل/الترفيه : حيــاتى ضأئــعه بلا لمسات المزاج : يا ربى عهدى بالذنوب قد إنتهى تاريخ التسجيل : 14/03/2009
| موضوع: رد: سبب الجنون الإثنين مايو 10 2010, 20:48 | |
| رووووعه الموضوع ربي يعطيك الف عافيه
عدل سابقا من قبل ♡♥.·(توتي )·.♥♡ في الإثنين مايو 10 2010, 21:05 عدل 1 مرات |
|
الحبيب غريسي عضو مـلــكــي
الجنس : المساهمات : 10498 العمر : 42 العمل/الترفيه : معلم المزاج : كن جميلا ترى الوجود جميلا تاريخ التسجيل : 18/09/2009
| موضوع: رد: سبب الجنون الإثنين مايو 10 2010, 21:02 | |
| ألف ألف شكر على المرور أخي توتي |
|
اماني عضو مـلــكــي
الجنس : المساهمات : 1653 العمر : 36 العمل/الترفيه : طالبة المزاج : مرتاحة دوما تاريخ التسجيل : 06/05/2010
| موضوع: رد: سبب الجنون الثلاثاء مايو 11 2010, 00:41 | |
| بارك الله فيك اخي واستاذي الحبيب على القصة الرااائعة تميز وابداع وتالق دوما |
|
الحبيب غريسي عضو مـلــكــي
الجنس : المساهمات : 10498 العمر : 42 العمل/الترفيه : معلم المزاج : كن جميلا ترى الوجود جميلا تاريخ التسجيل : 18/09/2009
| موضوع: رد: سبب الجنون الثلاثاء مايو 11 2010, 06:55 | |
| ألف شكر لمرورك الطيب أختي أماني |
|