أصل الصراع
صحيح أن الساسة اتفقوا
رغم اختلافهم علي تفجير الثورة، ونجحوا في البداية أن يضعوا خلافاتهم
جانبا، ولكن بعد عامين من بداية العمليات المسلحة ضد قوات الاستعمار
الفرنسي، كان لا بد من رص صفوف الثورة، خاصة وأن الصراع كان خفيا بين
السياسيين والعسكريين وبين جماعتي الداخل والخارج علي الزعامة.. وجاء
مؤتمر الصومام في 20 اب (أغسطس) 1956 ليضع الثورة علي المسار الذي اختاره
منظموه.. وحسب شهادات رموز الثورة فإن عبان رمضان كان المهندس الحقيقي
للمؤتمر.. ومن أهم قراراته أولوية السياسي علي العسكري والداخل علي
الخارج، ولكن أغلبية قرارات المؤتمر لم تنفذ.. ويري علي كافي الذي كان
قائد المنطقة العسكرية الثانية أن العسكريين كانوا مقتنعين بأن الثورة
ستطول مدتها، في حين أن السياسيين كانوا يرون بأن نهايتها وشيكة.. ويتهم
كافي هؤلاء بالسعي إلي القضاء علي الثوريين الحقيقيين، وتكريس فكرة
التفاوض، وأضاف بأن عبان هو من سعي إلي فرض كل من فرحات عباس والشيخ عباس
بن الشيخ الحسين كعضوين أساسيين في مجلس الثورة، رغم أن عباس كان مرفوض
شعبيا، بالنظر إلي مواقفه السابقة قبل وبعد اندلاع الثورة.. وكانت الشكوك
سبب تصفية عدد من قيادات الثورة، وعلي رأسهم عبان رمضان، الذي قيل في
البداية أنه استشهد في معركة علي الحدود الجزائرية ـ التونسية.. وازداد
الصراع اشتعالا مع انطلاق مفاوضات إيفيان بين جبهة التحرير والحكومة
الفرنسية، سيما وأن شمس الاستقلال كانت قد بدأت ترسل أولي خيوطها، واشتد
التنافس علي السلطة، والذي تحول إلي صدامات واقتتال سقطت خلاله أرواح
جزائريين علي أيدي إخوانهم الجزائريين.. وقبل ذلك كان العقيد هواري بومدين
قد أرسل عبد العزيز بوتفليقة إلي السجن للحديث مع القادة الخمسة الذين تم
اعتقالهم في المغرب يوم 22 تشرين الاول (أكتوبر) 1956، بعد أن تم تحويل
طائرتهم.. ورغم أن بومدين طلب معرفة رأي محمد بوضياف في تولي السلطة بعد
الاستقلال بدعم من قيادة الأركان العامة.. إلا أن بوتفليقة وجد في نفسه
ميلا لأحمد بن بلة، باعتبار أن بوضياف كان حاد الطبع وجافا وجلفا في
تعامله مع العسكريين.. ولم تكن هذه المهمة التي قام بها الذراع الأيمن
للعقيد هواري بومدين سوي مقــــدمة لما عـــــرف بأزمة صيــــف 1962، حيث
دخــــلت الحكومة المؤقتة التي كان يقودها بن يوسف بن خدة في صراع مع
قيادة الأركان العامة المدعومة من جانب أحمد بن بلة.. وانقسمت الجزائر إلي
جناحين مجموعة تلمسان وكانت تضم بن بلة وقيادة الأركان، إضافة إلي فرحات
عباس والمناطق العسكرية الأولي والخامسة والرابعة ومن جهة ثانية مجموعة
تيزي وزو وكانت تضم كريم بلقاسم ومحمد بوضياف والمناطق العسكرية الثانية
والثالثة إضافة إلي المنطقة الحرة بالعاصمة، وفيدرالية فرنسا ـ فرع جبهة
التحرير في فرنسا ـ وتحول الصراع إلي صدامات عسكرية أيام 3 و4 و5 ايلول
(سبتمبر) من عام 1962، وسقط قتلي بالمئات وأريقت الدماء ـ مرة أخري ـ
وكانت هذه الواقعة نقطة
تحول مهمة في علاقة العسكري بالسياسي في الجزائري، وكان واضحا أن بومدين
بالزي العسكري اختار بن بلة بالزي المدني ليكون رئيسا للجمهورية! ولكن هذه
العلاقة التي كانت تبدو حميمية في الظاهر، بدأت تسير من سيئ إلي أسوأ مع
مرور الأشهر والسنوات، سيما وأن الرئيس بن بلة أراد أن يضمن لنفسه السلطة
بعيدا عن هيمنة العسكر. في الوقت الذي لم يكن فيه العقيد هواري بومدين
وزير الدفاع متفطنا لما يختلج به صدر رئيسه.. يؤكد كثير من الساسة الذين
عايشوا تلك الفترة، أن رغبة الرئيس بن بلة في تنحية عبد العزيز بوتفليقة
من منصب وزير الخارجية كانت النقطة التي أفاضت كأس العلاقة بينه وبين
بومدين ، سيما وأن وزير الدفاع كان مقتنعا بأنه المقصود من هذا القرار،
وتكونت لديه فكرة أن الرئيس يستعد للتخلص منه ـ أيضا ـ بعد المؤتمر
الآفروآسيوي الذي كانت تستعد الجزائر لاستضافته، لذا فبمجرد أن عاد وزير
الدفاع إلي العاصمة الجزائرية من زيارته للقاهرة، بدأ في التخطيط لإزاحة
بن بلة من الحكم، ونجح في تنفيذ المهمة يوم 19 حزيران (يونيو) 1965
بمساعدة مجموعة مقربة من الشخصيات السياسية والعسكرية.. وفوجئ الرئيس بن
بلة بالعقيد طاهر زبيري قائد الأركان يدخل غرفة نومه بفيلا جولي الواقعة
في أعالي العاصمة، ومعه اثنان من الضباط، ليعلمه بقرار اعتقاله، وطلب منه
بصوت هادئ أن يتبعه.. وفهم بن بلة ما وقع بسرعة.. ولكنه حافظ علي هدوئه
وارتدي ملابسه وخرج دون مقاومة مع من جاءوا لاعتقاله.. وأعلن العقيد
بومدين عن الخبر للشعب الجزائري في بيان أذاعه التلفزيون، وسعي إلي تقديم
تبريرات لما أسماه بالتصحيح الثوري.. ولكن ما وقع فعلا هو أن العسكر ـ في
هذه الفترة ـ قرروا أن يحكموا مباشرة وبيد من حديد، بعد أن تأكدوا بأن مسك
الخيوط من خلف واجهة مدنية ليس مجديا في ذلك الوقت، الذي كانت فيه البلاد
تخوض معركة البناء والتنمية.
صانعة الرؤساء
عندما تولي الرئيس هواري
بومدين السلطة في 19 حزيران (يونيو) 1965 رفع شعار الشرعية الثورية، وحكم
البلاد حتي عام 1977 بمجلس قيادة الثورة، دون أن يكون هناك برلمان أو
دستور.. غير أنه حاول في السنتين الأخيرتين من حكمه إرساء دعائم نظام
مدني، وكانت له مشروعات عديدة، ولكن لم يسعفه الحظ ولم يمهله المرض حتي
يقوم بتجسيدها.. فقد انطفأ الرجل فجأة يوم 27 كانون الاول (ديسمبر) 1978
بعد صراع مرير غير معلن مع مرض خبيث كان ينخر جسده في صمت.. وكان الرجل
يأبي أن يتألم أو يشكو، لأنه كان مثل الصخر الذي لا يتأثر بشيء، كما أنه
تعود أن يسمع شكاوي الآخرين ويحاول الحد من آلامهم! ومباشرة بعد إعلان
الوفاة رسميا طرحت قضية الخلافة داخل دواليب السلطة.. وبدأ التنافس
والصراع علي كرسي الرئاسة، حتي قبل أن يواري جثمان الزعيم الراحل التراب
بمقبرة العالية بالعاصمة.. ومنذ البداية أن التنافس سيكون محصورا بين عبد
العزيز بوتفليقة وزير الخارجية وأحد المقربين من الرئيس الراحل، وبين محمد
الصالح يحياوي زعيم جبهة التحرير الوطني ـ الحزب الواحد والحاكم آنذاك ـ
ولكن العسكر كانت لهم الكلمة العليا، لأنهم اختاروا العقيد الشاذلي بن
جديد أكبر ضباط الجيش سنا، ولم يكن من الوجوه التي يعرفها الشعب
الجزائري.. ولعب قاصدي مرباح الذي كان يقود جهاز المخابرات العسكرية دورا
أساسيا وحاسما في اختيار الشاذلي بن جديد، الذي لم يكن متحمسا لهذا
المنصب، حسب ما يؤكده اللواء متقاعد خالد نزار في مذكراته.. ويضيف بأن
تعيين الشاذلي كانت له آثار سلبية علي المؤسسة العسكرية، ويعتقد بأن
أشخاصا مولعين بالسلطة أمثال مصطفي بلوصيف وعبد الله بلهوشات دفعوا به إلي
قمة السلطة لاستغلال ضعفه، حتي يتسني لهم تحقيق مآربهم الشخصية الضيقة..
ونفي أن يكون معني هذا التعيين بأن العسكر كانوا في السلطة! لأن الضباط
الذين كانوا أعضاء في اللجنة المركزية للحزب الواحد، لم يكن لهم أي تحكم
في القرار السياسي أو الاقتصادي، فضلا عن أولئك الذين تم تعيينهم في رئاسة
الجمهورية، والذين يتحملون مسؤولياتهم ـ حسب نزار ـ دون أن تكون مواقفهم
ملزمة للمؤسسة العسكرية في شيء.
تميزت السنوات الأخيرة من
حكم الرئيس الشاذلي بأحداث قلبت تاريخ الجزائر، وكانت أحداث 5 تشرين الاول
(أكتوبر) 1988 شرارة هذا التحول الجذري.. حيث انفجرت الجماهير في شوارع
المدن الواحدة تلو الأخري فجأة في الأيام الأولي من شهر تشرين الاول
(أكتوبر)، وانتشرت عمليات التخريب والنهب علي نطاق واسع.. ولم يجد الرئيس
المغلوب علي أمره ما يفعله لمواجهة هذه الأحداث، سوي أن أعلن حالة الحصار،
وأعطي الأمر لقوات الجيش بالنزول إلي الشارع، بعد أن عجزت الشرطة عن
مواجهة موجة الغضب الشعبي.. ووجد العسكريون أنفسهم لأول مرة في مواجهة
جحافل الجماهير الغاضبة وأغلبيتهم من الشباب، ولم يكن غريبا أن يسقط قتلي
في مواجهات دامية استخدمت فيها الأسلحة، سيما وأن الجنود لم يكونوا
مستعدين أو مدربين علي ممارسة مهام بوليسية بحتة.. ومن سخرية القدر أن
يكون أول قتيل خلال هذه الأحداث عسكرياً سابقاً فر من الخدمة، ووجد نفسه
وجها لوجه مع زميل يقود دبابة مزودة بـ 43 قذيفة.. واضطر الأخير إلي
استخدام سلاحه ناري، لمنع مهاجمه من إلقاء زجاجة حارقة في اتجاهه كانت
ستفجر الدبابة وتحدث من حولها أضرارا جسيمة!!